اللاجئ في ضيافة
اللاجئ
محمد أبو ليلى
- بيروت
"قالوا لنا:
أسبوعان فقط، وستعودون إلى دياركم – فلسطين". انتهى الأسبوعان، وما زال الانتظار
والتشرد والمعاناة والفقر والجوع والمرض سادة الموقف، وذلك عند الحديث عن اللاجئ الفلسطيني،
لا بل عن الإنسان الفلسطيني. لكن بالرغم من ذلك، فقد أبى إلا أن لا يستسلم، وأن لا
ينزلق في أتون المؤامرات التي تحاك ضده، ربما المؤامرات التي تدعو إلى أن يصبح الشعب
الفلسطيني "بخبر كان".
المؤامرات تلك
التي بدأت منذ أن فكّر هرتزل في أن تكون فلسطين هي البوصلة، وأن تكون فلسطين هي المشروع
للصهيونية، وأن تكون فلسطين هي المركز المصيري والوجودي للحركة الصهيونية العالمية.
وحقداً فعل هذا الحاقد اللاإنساني.
"فعلها هرتزل
أيها العرب"، لا الشعب الفلسطيني؛ فلم يكن الفلسطيني هو من أسس الصهيونية، وليس
هو من استقبل اليهود وقال لهم تعالوا إلى أرضكم، وليس هو نفسه الذي احتلّ فلسطين واليهود
استرجعوها منهم. إذاً، لماذا دفع الثمن؟ فما لم تحصل مصيبة في أي بلد "استضاف
رغماً عن أنفه" اللاجئين الفلسطينيين حتى نسمع أنه استُهدف وقتل، وأن بيته دمّر
وشرّد واعتُقل وقتل وقتل وقتل ثم شرد ثم قتل.
ففي لبنان، نُفّذ
بحق اللاجئين عشرات المجازر، وراح ضحية هذا الإجرام آلاف من الشهداء والجرحى والمعوَّقين،
لماذا؟ لأن الشعب اللبناني يقتتل أبناؤه في ما بينهم، وهناك قيادة فلسطينية اتخذت القرار
غير المناسب، فدفع ثمنها الشعب الفلسطيني، والقيادة ذهبت إلى تونس، ثم انتقلت ضمن صفقات
تفاوضية هزيلة إلى فلسطين ونادت: "يلا على القدس رايحين... شهداء بالملايين".
وفي العراق أيضاً، لماذا؟ لأن الأميركي احتل العراق بحجة وجود قنابل ذرية، وما إن انهار
النظام، تُفاجأ بأخبار تفيد عن استهداف الفلسطيني وتهديده وتشريده، وكأن المعلومات
المفبركة للجهات التي أرادت استهداف هذا الفلسطيني تقول: "الخراب الحاصل في العراق
صناعة فلسطينية".
وأمام الثورات
التي حصلت في العالم العربي في كل من مصر وتونس وليبيا واليمن، وصولاً إلى سورية، أدركت
القيادة الفلسطينية والوعي داخل النسيج الفلسطيني أن الانحياز إلى طرف ضد آخر سيكون
بمثابة الانتحار. وحسناً فعلت وفعلوا، وخاصة عندما كان الأمر يتعلق بالثورة السورية،
لكن ما الذي حصل؟ في آخر إحصائية للشهداء الفلسطينيين الذين سقطوا، وإلى كتابة هذه
السطور بلغوا 901 شهيد فلسطيني، وآلاف النازحين الفلسطينيين الذين بلغ عددهم نحو مئة
ألف نازح فلسطيني.
وفي العودة إلى
لبنان، فقد دخل اكثر من 6.000 عائلة فلسطينية من سوريا إلى لبنان، أي نحو عشرين ألف
نازح فلسطيني. فأين يذهب هؤلاء النازحون الذين هربوا من آلة القتل في سوريا؟ ولكن هيهات
هيهات، فما إن دخلت هذه الجموع إلى المخيمات الفلسطينية، حتى استنفرت كل القوى الفلسطينية
والوطنية والأحزاب والمؤسسات الأهلية والمدنية لإغاثتهم وتقديم يد العون لهم.
وكان مخيم عين
الحلوة الواقع من الجهة الجنوبية للبنان وصيدا، الذي تبلغ مساحته نحو 1.5 كلم ويقطنه
بحسب وكالة الأناضول نحو 85,000 لاجئ فلسطيني، الأكثر نموذجيةً في إغاثة إخوانه اللاجئين
النازحين من سوريا، حيث استقبل هذا المخيم وحده نحو 950 عائلة، أي ما يقارب 5000 نازح.
وما إن دقّت ساعة العمل، حتى رفعت مكبرات الصوت يعلو صداها كافة أرجاء المخيم، فتارة
يكون حديث للنبي محمد صل الله عليه وسلم "والله في عون العبد ما كان العبد في
عون أخيه"، وتارة أنشودة للشيخ العفاسي ينشد "أبكي على شــــام الهوى بعيون
مظلوم منــاضل، وأذوب في ســــــاحاتها بين المساجد والمنازل، ربـــاه سلّم أهلـــها
واحم المخـــارج والمـداخل، واحفـظ بلاد المسلمين عن اليمـائن والشمـائل، مستضعفين
فمن لهم يــا رب غيـرك في النوازل، مستمسكين بدينــهم ودمـائهم عطـــر الجنــادل..."،
فما إن سمع أهل المخيم تلك الأصداء العظيمة والحزينة حتى لبوا النداء؛ فمنهم من تبرع
بالمال، وآخرون بالملابس والفرش والبطانيات، ومؤسسات أخرى قامت بفكرة إبداعية من خلال
استئجار مدرسة بكاملها لإيواء النازحين الفلسطينيين.
وللوهلة الأولى،
يشعر الداخل إلى المخيم بأنّ شيئاً غير طبيعي يحصل هنا، فجأة يخرج أحد الصبية حاملاً
بيده كيساً يحتوي على بعض المؤن الغذائية، وآخرون يحملون بعض الصناديق المخصصة لجمع
التبرعات المالية، ثم تنظر فإذا ببعض الرجال يحملون الفرش وأكياس الثياب، وذلك من أجل
تسليمها للجهات المعنية لإغاثة النازحين. فالمشهد عظيم، فروح الأخوّة والمحبة تنغرس
في كل من يجول في أزقة المخيم.
والأهم من ذلك
كله، أن فلسطينياً مع فلسطيني "فلسطيني"؛ فلا مجال للتمييز، ولا مجال للتفرقة
بين هذا وذاك، ترى النازحين يدخلون المخيم من كل صوب وجهة بكل رحابة صدر من قبل اللاجئين
الفلسطينيين في المخيم.
إلا أن كل ما تقدم
لم يكن كافياً لسدّ حاجات العائلات الفلسطينية النازحة، ولذلك فإن مستوى الضيق المعيشي
والفقر والبطالة والمشاكل النفسية والاجتماعية ستكون عالية في الأيام القليلة القادمة،
بسبب التدفق الهائل لأعداد النازحين الفلسطينيين إلى المخيمات الفلسطينية من جهة، ولضيق
مساحتها من جهة أخرى.
لكن الذي يطمئن
أن الشعب الفلسطيني هو شعب معطاء، وقد تعوّد الفلسطيني اقتسام رغيف الخبز مع أخيه الفلسطيني،
ما داموا أصحاب قضية واحدة، وأصحاب مشروع واحد، هو تحرير فلسطين؛ فاللاجئ الفلسطيني
مع أخيه الفلسطيني في كل مصاعبه وأزماته، وخير دليل على ذلك حينما تذهب وتجول داخل
أزقة المخيمات وتستنتج بنفسك أن اللاجئ في أحسن ضيافة عند اللاجئ.
المصدر: مجلة العودة، العدد الخامس والستون