اللاجئون الفلسطينيون في لبنان: موت عند أبواب المستشفيات و95 بالمئة لا يملكون تأميناً صحياً
بقلم: أحمد الحاج
أحمد أبو ستة، بدأت حكايته حين كان طالباً يدرس الطب في إحدى الدول الأوروبية. باغت الاجتياح الإسرائيلي للبنان عام 1982 مسيرته التعليمية. الطالب الغزّي لم يحتمل رؤية دبابات الاحتلال وطائراته تقصف المقاومين والمدنيين في بيروت، فقرّر التوجه إلى جبهات القتال، حيث طلب العلم فريضة. قاتل، وانتهت المعركة. انضم إلى أحد الفصائل ليُكمل حربه. طال به المقام من دون أوراق ثبوتية. تزوّج ورُزق ابنتين وابناً. أبت المأساة إلاّ أن تحاول كسر بعض من عزيمته. تُصاب زوجته سلوى بمرض السرطان، سرطان الرئتين. ومأساة المرضى الفلسطينيين في لبنان سيف ذو شعبتين: شعبة المرض نفسه، وأخرى هي كيفية تكاليف العلاج. الشعبة الأولى توهن الجسد، والأخرى تصيب كبرياء الكريم.
لم يستطع المناضل توفير تكاليف العلاج والدواء، فمدخوله الشهري لا يتجاوز ثلاثمئة دولار، بينما تكاليف علاج ذلك المرض تتجاوز أحياناً آلاف الدولارات شهرياً. أما وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين "الأونروا"، فتغطّي من التكلفة ما لا يتجاوز ثلاثة آلاف دولار سنوياً. انقطعت الأم عن تناول الدواء، فتك المرض ببقية أنحاء الجسد، وكان الجسد أوهن من أن يحتمل، فتلقّاه باطن الأرض.
أشهر قليلة مضت على وفاة الوالدة. الإرهاق أصاب الزوج، بين حزن على فراق الزوجة، وعمل لأكثر من عشر ساعات في اليوم، وأولاد يعكف على تربيتهم، فأُصيب أحمد بأزمة قلبية. رفضت "الأونروا" تقديم المساعدة الصحية؛ لأنه من "سكان غزة"، ولا يحمل البطاقة الخاصة باللاجئين الفلسطينيين في لبنان. وما كاد بعض الجيران والأصدقاء يبدأون بحملة لجمع تكاليف العملية الجراحية المطلوبة، حتى سبقتهم المنيّة إلى الرجل، لتترك أطفالاً من دون أوراق ثبوتية، وذنبهم أن أباهم كان مقاوماً، وأن أمهم هي من اللاجئين الفلسطينيين في لبنان.
حكاية عائلة أبو ستة ليست حكاية معزولة في حياة اللاجئين الفلسطينيين في لبنان، بل مثال على حكايات أخرى تمثّل الواقع الصحي المأساوي لهؤلاء اللاجئين. من أب يعرض ابنه للبيع بعدما عجز عن توفير تكلفة علاجه، إلى آخر يموت ابنه على باب المستشفى لأنه رفض استقباله، بذريعة أنه لا يملك ما يكفي من المال.
"الأونروا" الوكالة المنكوبة
وكالة "الأونروا"، ما قبل عام 1982، تقدّم ما يكفي لعلاج الفلسطينيين على نفقتها، في مستشفيات ذات سمعة حسنة. تخلّي "الأونروا" عن مسؤولياتها بدأ منذ عام 1984، وإن جزئياً. لكن التخلّي شبه الكامل عن مسؤولياتها في المجال الصحي كان مع توقيع اتفاق أوسلو عام 1993. ففي ذلك العام بدأ الحديث الجدي عن قرب إنهاء الأونروا لخدماتها، في موازاة توجيه خدمات هذه المنظمة الدولية إلى الأراضي المحتلة عام 1967، لدعم مشروع ما يُسمى عملية التسوية. وما بين عامي 1989 و1995 انخفض عدد أسرّة المستشفيات المتاحة للفلسطينيين في لبنان بما يزيد على النصف من 0.56 سرير إلى 0.25 سرير لكل 1000 شخص.
في عام 1994 أوقفت "الأونروا" المساعدات العلاجية لمرضى الفشل الكلوي، وامتنعت عن دفع أية مساعدات مالية لمرضى القلب المفتوح فوق الستين عاماً، واقتصرت مساعداتها على ما دون الستين بمبلغ بسيط لا يتجاوز ربع تكلفة العملية. وبدأت خدمات "الأونروا" بالتراجع تراجعاً حادّاً وظاهراً.
حسب إحصائيات دقيقة، فإن طبيب الصحة العام في عيادة الأونروا يُجري معاينات لنحو 85 مريضاً يومياً، في خلال ست ساعات، أي أن كل مريض ينال أقل من أربع دقائق من اهتمام الطبيب وأسئلته وتشخيصه للحالة المرضية. وفي تقرير للمفوض العام لوكالة "الأونروا" للعام 2004-2005 يذكر أنه "تفيد منظمة الصحة العالمية بأن الإنفاق السنوي للفرد الواحد على الصحة في البلدان المنخفضة الدخل يراوح بين دولارين إلى 50 دولاراً. أما متوسط إنفاق الوكالة على الصحة في عام 2004 فقد قُدر بمبلغ 14.6 دولاراً للاجئ الواحد". أي أنه حتى قياساً باللدول النامية، إن الفرد الفلسطيني يحتل المرتبة الدنيا في سلّم ما يناله من إنفاق على صحته.
وتُمثّل عيادات "الأونروا" ضرورة بالنسبة إلى الفلسطينيين في لبنان، ليس بسبب خدماتها المتميزة، بل بسبب الفقر المدقع الذي يحياه الفلسطينيون. ويشير استطلاع للرأي أجرته "مؤسسة شاهد لحقوق الإنسان" أن نحو 88 بالمئة من اللاجئين الفلسطينيين في لبنان ليس لديهم تأمين صحي، أما الأونروا فتُقدر عددهم بنحو 95 بالمئة. ومعلوم أن هؤلاء الفلسطينيين لا يحظون بأي ضمان صحي من الدولة المضيفة، رغم أنهم مجبورون بحسب قوانين الدولة اللبنانية بدفع اشتراكات للضمان الصحي في لبنان.
وما يُقال عن تقصير "الأونروا" يمكن قوله عن أفعال الحكومة اللبنانية التي ترقى من مستوى التقصير إلى مستوى الحرمان المتعمد. فالمؤسسات الحكومية الصحية لا تقدم الخدمات الصحية للاجئين الفلسطينيين في لبنان بخلاف ما تفعله دول عربية أخرى تستقبل اللاجئين، مثل الأردن وسورية. ولا تهتم الحكومة اللبنانية بالمشاريع البيئية في المخيمات الفلسطينية، ولا تحث الأونروا على تنفيذ مشاريع، إلا في بيانات وزارية عند تأليف الحكومات.
اضطراب نفسي
في عام 2010 قامت وكالة "الأونروا" والجامعة الأميركية في بيروت، بمسح اقتصادي واجتماعي شامل للاجئين الفلسطينيين في لبنان، وهذا المسح هو الأكثر دقة؛ نظراً إلى أنه شمل عيّنة تمثيلية واسعة تمثلت بنحو 2600 أسرة. على صعيد الصحة، أظهر المسح أن ثلث السكان يعانون أمراضاً مزمنة، وأن كل الأُسر التي لديها فرد مصاب بإعاقة تعيش في الفقر الشديد. ويضيف المسح أن 21 بالمئة ممن شملهم المسح قالوا إنهم يعانون الانهيار العصبي أو القلق أو الكآبة. ويصل التقرير إلى خلاصة، هي أن أي إصابة بمرض مستعص قد تدفع بالأسرة إلى الفقر.
وعن السكن وظروف العيش، وهما يؤثران مباشرة على الحالة الصحية، فإن 66 بالمئة من المساكن تعاني مشاكل الرطوبة والنش، ما يؤدي إلى أمراض نفسية وأمراض مزمنة. كذلك إن 8 بالمئة من الأسر تعيش في مساكن سقفها و/أو جدرانها مصنوعة من الزينكو، الخشب أو الأترنيت، والنسبة نفسها تعيش في مساكن مكتظة (أكثر من ثلاثة أشخاص في الغرفة الواحدة). وعلى صعيد الأمن الغذائي، وهو مرتبط أيضاً بالصحة، فإنه وفق المسح فإن 63 بالمئة من اللاجئين الفلسطينيين يعانون فقدان الأمن الغذائي. وأكثر من ربع الأُسر لا يتناول أفرادها كميات مناسبة من الفاكهة والخضار واللحوم ومنتجات الحليب. كذلك إن ثلث الفلسطينيين لا يحصلون على متطلبات الغذاء الأساسية.
ما يقال عن عن "الأونروا" وتراجع خدماتها، يمكن أن يقال أيضاً عن الهلال الأحمر الفلسطيني الذي يعاني هو أيضاً تراجعاً حادّاً في خدماته. فبعد تدمير عدد من مستشفياته ومراكزه خلال الحرب الأهلية في لبنان، بدأت خدمات المراكز الباقية بالتراجع، نتيجة انعدام المراقبة، وعدم توافر الكادر الطبي والإداري اللازم، والأخطاء الطبية المتكررة التي أدّت إلى وفاة العديد من الأفراد. وتفيد إحصائيات بأن 8 بالمئة فقط من الفلسطينيين في لبنان يترددون إلى مراكز الهلال الأحمر الفلسطيني عند الحاجة. وما ضاعف الأزمة الصحية هو هجرة الكادر الطبي الفلسطيني نتيجة عدم التصريح له بالعمل. وإذا أراد العمل في مؤسسات الهلال الأحمر الفلسطيني فإن راتبه لن يتعدّى ثلاثمئة دولار.
نتيجة الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية للاجئين الفلسطينيين في لبنان، فإن أول التأثيرات تكون على الصحة النفسية؛ فقد أعلنت منظمة "أطباء بلا حدود"، بعد بحث ومعاينات استمرت لسنوات، أن واحداً من كل ثلاثة بالغين في مخيم برج البراجنة (الضاحية الجنوبية لبيروت) يعاني اضطرابات في الصحة النفسية.
أما المعطيات الأخرى التي ذكرتها "أطباء بلا حدود"، فهي أن نسبة 96 بالمئة من الذين شُخّصوا أنهم يعانون اضطراباً في الصحة النفسية، أو من الذين يُعدّون بحاجة إلى الدعم النفسي، لم يحصلوا على الخدمات المختصة المناسبة. وتتلاقى نتائج الدراسة مع نتائج دراسات وكالة "الأونروا". وتُظهر إحصاءات مماثلة أن واحداً من بين كل أربعة لاجئين فلسطينيين في لبنان يشعرون باليأس من المستقبل، ويتعاطى 21 بالمئة الأدوية بانتظام لأسباب الإحباط النفسي.
"الموت على الأسفلت"
كثيرون من الفلسطينيين يموتون على أبواب المستشفيات، حتى أصبح ذلك خبراً عادياً لا يثير الفضول. آخر الموتى كان الفتى الفلسطيني محمد نبيه طه من مخيم عين الحلوة في جنوب لبنان. الطفل ذو الأحد عشر عاماً أُصيب باختناق، فاضطرب الأهل وسارعوا إلى نقله لأحد المستشفيات الحكومية. استُقبل في قسم الطوارئ، وقُدّمت له بعض الإسعافات اللازمة. اعتذر المستشفى لأنه لا يملك جهاز تنفسي اصطناعي. نُقل إلى مستشفى آخر، هناك طلبوا رسم دخول رغم تعاقد "الأونروا" مع المستشفى. وإلى حين استكمال الطبيب المعيّن من "الأونروا" اتصالاته مع إدارة المستشفى، كان الطفل قد فارق الحياة. تحرّكات شعبية تبعت ذلك، واعتصامات لم تغيّر شيئاً من الواقع الصحي للفلسطينيين. وبقي المثل الفلسطيني الشائع بين الفلسطينيين "الله ينجينا من الحكومة والحكيم (الطبيب)"، أوليسا هما مصدر القلق للاجئين الفلسطينيين في لبنان؟
المصدر: مجلة العودة