اللاجئون الفلسطينيون وسياسات تكريس الفقر
بقلم: نهاد بقاعي – باحث ورسام كاريكاتير
ليس غريباً أن يرتبط اللجوء ارتباطا وثيقا بالفقر. فاللجوء بكل ما يحمله من مدلولات للحرمان، الانتزاع ، والاغتراب كفيلٌ بأن يصبح مرادفا للفقر إلى حد كبير.
بيْد أن الغريب حقا، هو أن يتم تكريس هذا الفقر نهجا، على مدار أكثر من ستة عقود، على يد الجهات المكلفة بمساعدة اللاجئين، بما يجعل اللاجئين يحومون أبدا ضمن الدائرة ذاتها التي تسمى "فقرا". فتصبح هذه "الثنائية" حقيقة دامغة لا يجوز الخروج عليها، ومن ثمّ الخروج منها.
تعدّ قضية اللاجئين والمهجرين الفلسطينيين اليوم، واحدة من أضخم قضايا اللجوء في العالم وأوسعها انتشارا وأمدّها عُمرا. حيث يشكل اللاجئون والمهجرون ما يعادل نحو ثلاثة أرباع تعداد الشعب الفلسطيني، فيما يتواجد قسرا أكثر من نصف تعداد الشعب الفلسطيني خارج حدود فلسطين التاريخية، وهو ما يضيف للجوء (والعودة)، رغم صفته الفردية بالأساس، بعدا جماعيا يطال صميم المشروع الفلسطيني المعاصر.
ورغم هذه الأهمية (وربما بسببها)، يؤطر العقل الجماعي اللجوء بما لا يتعدّ حدود الحرمان والطبيعة الطارئة والمؤقتة، وهو بدوره ما يحُول دون نشوء تنمية مستدامة تتيح للاجئين اجتياز ذلك. بل أن الأطراف الدولية، والمجتمعات المضيفة، والحركة الوطنية الفلسطينية، وحتى اللاجئون أنفسهم قد نظروا (وبعضهم لا يزال ينظر) إلى أن أيّة محاولة لتحسين الظروف المعيشية للاجئين تعني السعي للتوطين في الشتات حتما. ولذلك "على اللاجئين أن يظلوا بالضرورة فقراء محرومين بحكم الواقع". وفي الحالات الأكثر وضوحا وتطرفا، كحال لبنان، فإن حرمان اللاجئين هو شرط، مشرع قانوناً، لضمان منع التوطين على الأراضي اللبنانية. فبالإضافة إلى تشريعات لمنع التملك، ومنع البناء في المخيمات! وقيود صارمة على الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والمدنية، تمنع الحكومة اللبنانية اللاجئين الفلسطينيين من مزاولة نحو 70 مهنة. وبالتالي، يقبع نحو 60 % من اللاجئين الفلسطينيين في لبنان تحت خط الفقر، وهي معدلات خطيرة بكل المقاييس، يليها قطاع غزة (بنحو 45 %) ثم اللاجئون الفلسطينيون في الأردن بنحو 31 %.
وتتعلل الحكومات المضيفة في فرضها القيود على اللاجئين بالطبيعة الطارئة للجوء، وتكون في أغلب الأحيان غير قادرة أو غير مستعدة فعلا لتقديم المساعدات لهم (حتى مساعدات الحد الأدنى). وفي الوقت ذاته، تعاني الاستجابة الدولية من محدودية التأثير عموما، بدون تفويضات واضحة في الغالب. فجهود المجتمع الدولي، وتتمثل أساسا في عمل وكالة الأمم المتحدة لغوث وتشغيل اللاجئين-الأونروا، وبدرجة أقل اللجنة الدولية للصليب الأحمر وجمعية الهلال الأحمر ومنظمات أخرى ترتكز على جهود "الإغاثة" (Relief) والمساعدة (Assistance)، فيما ظل المحور الأهم، خصوصا لمراحل الشتات المتقدمة، غائبا ويتمثل بتوفير الحماية (Protection). إن تكريس مثل هذا الخطاب الإنساني، يزيغ النظر، بشكل متعمد إلى حد كبير، عن تحقيق تنمية اقتصادية طويلة المدى، كما تجعل اللاجئين رهائن للمعونات والهِبات، وتضرّ بقدرتهم على مساعدة أنفسهم بشكل مستقل لاجتياز "أزمتهم الإنسانية".
تلعب وكالة الأونروا التي تأسست في العام 1950 بموجب قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم 302، الدور الرئيس في مساعدة اللاجئين. وتقوم الأونروا باعتماد برامج للتعليم والصحة والخدمات الاجتماعية، وغيرها، كما تقوم باعمال الاغاثة لغير اللاجئين أيضا في الحالات الطارئة. وتقدم الأونروا مساعدات لحالات العسر الشديد للاجئين الفلسطينيين المسجلين وهي الأعلى في لبنان (11%) ويليها قطاع غزة (9%). ويعد نحو 6 % من مجمل تعداد اللاجئين المسجّلين لدى الوكالة بخانة حالات العسر الشديد.
على صعيد الحماية، فقد إنهارت أعمال لجنة التوفيق الدولية حول فلسطين (UNCCP)، وهي الهيئة الدولية المفوضة بتوفير الحماية للاجئين الفلسطينيين بموجب قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم 194 (1948)، في خمسينيات القرن الماضي، فيما لم تقم أية جهة أخرى (كمفوضية شؤون اللاجئين UNHCR أو وكالة الأونروا أو وكالات أخرى) بسد هذا الفراغ. وللحماية دور كبير في ضمان منع انتهاك حقوق اللاجئين، بما تشمل حقوقهم الاقتصادية. وبغيابها، اتسعت دائرة العبث بحقوق اللاجئين في مناطق شتاتهم المختلفة، بما يشمل تكرار التهجير، ووقوع حالات الاعتداء بشتى أشكاله.
كما أدى توقف عمل لجنة التوفيق الدولية إلى شلّ مشروع في غاية الأهمية بادرت إليه اللجنة في بداية الخمسينيات لتسجيل ممتلكات وأراضي اللاجئين من خلال مسح شامل. وتقدر خسائر اللاجئين الفلسطينيين جراء نكبة 1948 بين 250-600 مليار دولار أمريكي، وهي تقديرات، تشمل الأرض، واستخدامها غير القانوني عبر السنين، والممتلكات المنقولة وغير المنقولة، بالاضافة الى أموال البنوك الفلسطينية المنهوبة. وهو ما يجعل نكبة 1948 واحدة من أضخم عمليات السطو والنهب التي حدثت في التاريخ المعاصر.
كما أن نكبة 1948، قد وضعت الفلسطينيين في مواجهة تحد في غاية الخطورة: كيف يمكن لمجتمع فلاحي أن يعيش خارج قريته الذي عاش فيها لقرون طويلة وبنى حولها نظامه الاقتصادي والاجتماعي والثقافي، وبكثير من الاستقلال الذاتي؟ لقد سعى اللاجئون والمهجرون في الداخل منذ الأيام الأولى للنزوح الى "إعادة انتاج" القرية الأصلية قدر المستطاع في مناطق اللجوء. بطبيعة الحال، فإن نجاح محاولات إعادة إنتاج نظم القرية خارجها، كان محدودا، خصوصا وأن الأمر قد تم بغياب الأرض التي شكلت العنصر الأول في حياة الفلاحين واقتصادهم. وهو ما دفعهم نحو العمل المأجور "التبعي"، وبالتالي إلى عمال "غير مهرة". وتزيد ضخامة العائلة الفلسطينية المتوسطة في المخيم (بين 4.8 – 8.0 أفراد للأسرة الواحدة) من أزمتها الاقتصادية، وتؤثر على فاعلية الدخل بشكل حاد ومباشر. وفي الوقت ذاته، ظلت العلاقة التبادلية بين الانجازات التعليمية والتقدم الاقتصادي هشة جدا.
يعتبر اليوم، نحو 60 % من مجمل اللاجئين والمهجرين في مناطق الشتات الرئيسة أشخاصا قابلين للتشغيل، الا أن حجم استغلال قوة العمل تقل عن النصف عموما. وتزداد نسبة عدم استغلال قوة العمل في المخيمات وبين اللاجئات. وهو ما ترجم بدخل معدل سنوي منخفض يتلقاه اللاجئون الفلسطينيون بالمقارنة مع السكان المحليين. ففي الأردن، فإن أكثر من 25 % من اللاجئين والنازحين الفلسطينيين في المخيمات يتلقون دخلا أقل من 1250 دولار أمريكي سنويا، فيما تصل نسبة الغير (من السكان المحليين واللاجئين خارج المخيمات) الى 10 %. بالاضافة الى ذلك، فإن نسبة اللاجئين والنازحين في المخيمات الذين يتلقون دخلا أكثر من 5000 دولار امريكي سنويا لا تتعد 6 % فيما تصل هذه النسبة في أوساط الغير الى نحو 20 %. وفي لبنان، فإن نحو 44 % من اللاجئين الفلسطينيين مشمولون ضمن إطار الدخل المنخفض جدا (اقل من 2400 دولار أمريكي سنوي) مقارنة مع 6 % من السكان المحليين. بالاضافة الى ذلك، فقد حدد نحو 70 % من عائلات اللاجئين ضمن اطار الدخل المنخفض الثاني ( اقل من 4000 دولار امريكي سنويا) مقارنة مع 20 % من السكان المحليين. ويصل معدل الدخل السنوي في سوريا للاجئين الفلسطينيين الى نحو 1000-1100 دولار أمريكي، وفي الأردن الى 2400 دولار أمريكي.
لقد قادت الظروف المعيشية الصعبة للاجئين في المخيمات في مناطق الشتات الى دفع المزيد من الاطفال الى هجر مدارسهم والتوجه الى العمل بغية مساعدة عائلاتهم في نفقات العيش. ففي لبنان يعمل نحو 54% من الأطفال الذكور (من ذوي أعمار 15-17 عاما) و 40 % من الأطفال (من ذوي أعمار 10-14 عاما). وأما في سوريا، فيعمل 36 % و 9.6 % على التوالي من نفس الفئات العمرية. وفي الاراضي الفلسطينية المحتلة عام 1967، يشارك نحو 12 % من أطفال المخيمات من الفئة العمرية 10-17 سنة في قوة العمل.
ولا بد من لفتة إلى الظروف السكنية في المخيمات، لما تحمله من حرج بالغ. فقد أقيمت مخيمات اللاجئين أساسا على مساحات محدودة "غير قابلة للتوسّع"، وقد اختارت حكومات الدول المضيفة بعض المساحات لبناء المخيمات عليها، وفيما كان بعضها تابعا لملكية الدولة، فان الغالبية من مساحات الأراضي التي خصصت للمخيمات قد تم استئجارها من قبل الدول المضيفة.
وتصل نسبة الكثافة السكانية (وهي عدد الأفراد في الغرفة الواحدة) الى 2.5-3.0 أفراد للغرفة الواحدة (إذ تشير المقاييس الدولية على أن 3 أفراد في الغرفة الواحدة أو أكثر هو مؤشر على الإزدحام عموما). وتصل معدلات الكثافة السكانية للاجئين في المخيمات إلى 190000 نسمة لكل كم مربع واحد للمخيمات في لبنان (!)، ثم سوريا 59000 نسمة، ثم الأردن 51000 نسمة، ثم قطاع غزة 34000 نسمة، ثم الضفة الغربية 26000 نسمة.
في المجمل، تساعد الطبيعة الطارئة للجوء، والسهولة التي تبديها الحكومات المضيفة في فرض مزيدا من القيود على اللاجئين، وارتكاز جهود الاستجابة الدولية على الإغاثة والمساعدة، وإنعدام نظم دولية توفر الحماية، بتكريس الفقر بين أوساط اللاجئين الفلسطينيين، بما يضمن توفير الحد الادنى لمعيشتهم دون القدرة على اجتيازهم هذه الدائرة.
المصدر: موقع بانيت