القائمة

مواقع التواصل الأجتماعي
الإثنين 25 تشرين الثاني 2024

المخيمات الفلسطينية... بؤرة المقاومة والشاهد على النكبة

المخيمات الفلسطينية... بؤرة المقاومة والشاهد على النكبة

بقلم: عدنان أبو عامر

فيما أخذت مختلف فئات المجتمع الفلسطيني دور القواعد اللوجستية التي تكفلت بتحمل النتائج المترتبة على مشاركة أبنائها وبناتها في فعاليات المقاومة: الأب، الأم، الإخوة، الأخوات، الجيران، الحي، البلدة، الجمعية، المؤسسة، المستشفى، فقد مثلت مخيمات اللاجئين الفلسطينيين المنتشرة في الضفة الغربية وقطاع غزة الحاضنة التاريخية للفعل المقاوم، وتقبلته وتفاعلت معه، ما أدى لانتشار بؤر المقاومة وتأثيراتها.

وبرز دور المخيمات الفلسطينية في المقاومة من خلال فاعلية الإضرابات التجارية والإضرابات المهنية والحرفية، التي شملت شتى أنحاء هذه المخيمات في الضفة والقطاع، بعد أن هدمت الآلة العسكرية الإسرائيلية

أكثر من 531 قرية فلسطينية في عام النكبة 1948، واضطر أهلها اللاجئون للخروج منها تحت تهديد السلاح.

يبلغ عدد مخيمات اللاجئين الفلسطينيين في الأراضي المحتلة، الضفة الغربية وقطاع غزة، قرابة الثلاثين مخيماً، تشرف على إدارتها وكالة الأونروا، وقد كان لغالبيتها دور محوري في مسيرة المقاومة الفلسطينية طوال العقود الماضية، ومن أبرزها جباليا، شعفاط، خان يونس، قلنديا، رفح، الدهيشة، النصيرات، الجلزون، وغيرها.

تجلت مشاركة مختلف الفئات الاجتماعية لمخيمات اللاجئين في المقاومة من خلال:

- قيام المدرسين بدور حقيقي لمحاولة تطوير نظام التعليم البديل، بعد إغلاق المدارس.

- تنفيذ المحامين للإضرابات احتجاجاً على المحاكم العسكرية، وأحكامها بحق المعتقلين.

- مشاركة الأطباء في تطوير شبكات آمنة للرعاية الصحية في أنحاء الضفة والقطاع.

- إنجاز الصحافيين والكتاب لمهامهم الوطنية الرئيسة بتوعية الشعب وتحريضه على الانخراط في فعاليات المقاومة، ونقل الأحداث الثورية من فلسطين إلى أطراف العالم، وإسهام الكثير من أبناء اللاجئين في الصفين الأول والثاني من قيادة المقاومة.

العناصر الاجتماعية

ويمكن استعراض أبرز الفئات والعناصر الاجتماعية في مخيمات اللاجئين، وطبيعة المهام التي قامت بها:

أولاً: الأسرة والعائلة

أثرت المقاومة الفلسطينية على مجمل العلاقات الاجتماعية داخل مخيمات اللاجئين، بتفاوت في الدرجة مع اختلاف الموقع الجغرافي، والمرتبة الطبقية، والشريحة العمرية، وتغيّرت بعض المعايير الاجتماعية.

لم تستمر المقاومة الفلسطينية داخل مخيمات اللاجئين بالصورة التي بدأت بها، بل تطورت أشكالها، وارتفعت إلى الوضع المنظم، ما جعل من مقاومة الاحتلال هدفاً لها، مع التصدي للسلبيات التي عششت في ثنايا المجتمع منذ أمد بعيد.

فكان لا بد من تطور المجتمع والإنسان استجابة للتنظيم الذاتي الذي ارتقى إليه المخيم، عبر اللجان الشعبية والوطنية المشرفة على شؤون الناس، فضلاً عن تسييرها أمور تنظيم المقاومة، وتصديها لمعالجة المشاكل العائلية.

تمثلت أبرز أشكال المقاومة بالإضراب الشامل والتجاري الجزئي وأيام الحداد، لتشكل عناوين بارزة للتغيير الذي طرأ على صعيد الأسرة، والعلاقة بين الآباء والأبناء، فمن كان يعلم أن الأطفال والأشبال سيتوقفون عن الدراسة كل تلك السنوات، ومن توقع أن القوات الضاربة ستتشكل من أطفال وشباب لم يتجاوزوا الخامسة عشرة من العمر.

كل ذلك ترك آثاره العامة على تنظيم الأسرة والعائلة في داخل المخيم، بسبب اندفاع المقاومة وتواصلها، ولم يبق عضو من أعضاء هذه الخلية الاجتماعية (الأسرة)، إلا أثر وتأثر بالأحداث الجارية.

ثانياً: الشباب والجامعيون

لم يكن باستطاعة أي مراقب لمسيرة المقاومة الفلسطينية ومجرياتها من خلال فعلها اليومي عبر معرفة أخبارها، إما عن طريق نداءاتها وبياناتها وبرامجها، أو عبر تناقل أخبارها بوسائل الإعلام، المسموعة والمرئية والمقروءة، إلا أن يلمس حجم الدور النضالي والجريء الذي قامت به مخيمات اللاجئين، في ضوء ما تتمتع به من حماس واستعداد نضالي عال، وانتشار واسع وقدرة حركية عالية، ورفدها بدم وطني متدفق وجديد باستمرار.

ولعل السمة الأبرز لمشاركة مخيمات اللاجئين في مسيرة المقاومة الفلسطينية تمثلت في انخراط عنصر الشباب، الذين أسقطوا البرنامج الاحتلالي الهادف لإذابة الهوية الوطنية، وإجبار الفلسطينيين على قبول الأمر الواقع، خاصة أن نسبة من هم دون سن الرابعة عشرة بلغت 46% من سكان الضفة الغربية، فيما وصلت النسبة في قطاع غزة إلى 47%.

وإن الدور الذي قام به شبان مخيمات اللاجئين يعود للنسبة التي يشكلونها في مرحلة الانتفاضة الأولى 1987، وهي 60% من عدد السكان الذين ولدوا في ظل الاحتلال وسياساته القمعية والإجلائية، واستيقظوا على محاولات طمس وتبديد الهوية الوطنية للشعب الفلسطيني، وتضييق الخناق على حرية الرأي والتفكير والإبداع، ومحاولات تزوير الثقافة والتراث الوطني.

علماً بأن ما يزيد عن 60% من المصابين والشهداء والأسرى في مخيمات اللاجئين خلال سنوات الانتفاضتين، الأولى والثانية، من فئة الشباب الذين تراوح أعمارهم بين 16 - 35 عاماً.

يشار إلى أن قيادة المقاومة أولت عناية فائقة بهذه الفئة الشابة داخل مخيمات اللاجئين، والدور الذي تلعبه في إطارها، فالنداءات تخاطب العمال والطلبة والفلاحين والنساء والمهتمين وأرباب العمل المحليين، وتحدد لكل فئة من الفئات مهامها المناطة بها بكل مرحلة.

وقد استخدم اللاجئون الفلسطينيون منذ اليوم الأول لانطلاق مقاومتهم، الحجارة كسلاح أولي ضد جنود الاحتلال، ثم انضمت قنابل المولوتوف، وعملوا على تطويرها بإضافة قطع الحديد والكبريت إليها، وسكبوا الزيت على طرق المخيمات، ووضعوا قطع الخيش بين إطارات السيارات المجنزرة. كما رموا المسامير في الشوارع، وملأوا بيض الدجاج بحامض الكبريتيك وقذفوا به جنود الاحتلال، واستخدموا السكاكين لطعنهم والمستوطنين، وأحرقوا المزارع والمحاصيل لاستهداف اقتصاد الاحتلال، وأحدثوا الخراب في مصانعه ومؤسساته.

ثالثاً: المرأة اللاجئة

دفعت أحداث المقاومة الفلسطينية في الضفة والقطاع، بالنساء اللاجئات إلى الصفوف الأولى للمواجهة مع الاحتلال، فانضممن لأولادهن المتظاهرين، وألقين الحجارة على القوات الإسرائيلية، ورفعن الأعلام الوطنية، وهتفن بالشعارات الحماسية، وكافحن وطالبن بالإفراج عن أزواجهن وإخوانهن وأبنائهن المعتقلين.

وبهذا الاندفاع حطم دور المرأة اللاجئة تقاليد كثيرة وقديمة قصرت مهماتها على رعاية الزوج والأطفال في المنزل، وجاء خروجها للمقاومة محصلة عملية تدريجية استغرقت سنوات، تولت خلالها مسؤوليات عامة بمجالات مختلفة، فقد كان الطريق أمامها معبدا للعب دور جديد، جعلها تمثل الجدار الواقي للأطفال والشبان المتظاهرين من هجمات القمع الإسرائيلي.

شكلت الحركة النسوية في مخيمات اللاجئين جزءا لا يتجزأ من الحركة الوطنية، بحكم العلاقة المتبادلة والمترابطة بين نضال المرأة لنيل حقوقها، وبين التحرر والاستقلال، وقدمت من خلالها مساهمات بارزة في الدفاع عن الاستقلال الوطني والتقدم الاجتماعي.

ولم يقتصر خروج المرأة ومشاركتها في المقاومة على فئة أو قطاع أو سن دون غيره، بل شمل الطبيبات والعاملات والطالبات والفلاحات والأكاديميات، وربات البيوت اللاتي انخرطن بروح موحدة في فعاليات المقاومة، ونظمت الكثير من الاعتصامات والمظاهرات والمسيرات.

ساهمت اللاجئة الفلسطينية في دور مقاوم لم يقم به سواها يخص أسرى المقاومة ومعتقليها، كالدعم المالي للأسرى وعائلاتهم، على شكل ملابس ونقود ترسل إليهم، وابتداع فكرة توأمة الأسر، بحيث جرى ربط أسرة معتقل مع أسرة أخرى، والاتصال مع نقابة المحامين لمتابعة شؤون الأسرى واحتياجاتهم، وتشكيل لجان التضامن مع الأسرى التي تنظم زيارات تضامنية لعائلاتهم.

غني عن القول إن دور المرأة اللاجئة لم يقتصر على المنخرطات في التنظيمات السياسية والمؤسسات الجماهيرية، بل وصل بعده إلى عمق دار المرأة التقليدية، الأم والأخت والزوجة والابنة من ربات البيوت، ما أعطى زخما لعائلات فلسطين بأكملها.

رابعاً: الفلاحون

شملت المقاومة مختلف الطبقات والقطاعات الشعبية: العمال، الفلاحين، الطلبة، المثقفين، التجار، المدن، المخيمات، القرى، الرجال، النساء، الفتيان، المسلمين، المسيحيين، وأثرت هذه الشمولية بإبراز حقيقة هامة ذات مغزى تاريخي بالنسبة لسيرورة المقاومة ومستقبل تطورها، تمثلت بوجود معاقل اجتماعية محددة، تتمركز فيها المقاومة، وترتكز إليها.

وقد شكل سكان المخيمات المعقل الأهم للمقاومة، كونهم يشكلون نسبة 17% من إجمالي سكان الضفة والقطاع، ويعانون من ظروف اقتصادية ومعيشية سيئة، وتعود معاناتهم لعشرات السنين، ما ولّد لديهم شعورا بالغبن والقهر، بشقيه القومي والطبقي، ومن هنا جاءت مشاركتهم الريادية في فعاليات المقاومة.

علما بأن النسبة الكبيرة من اللاجئين الفلسطينيين تنتمي للطبقة العاملة الفقيرة، وهم الأكثر ثورية ومشاركة في المقاومة، بسبب افتقارهم لما يفتقدونه، وحرمانهم من مساقط رؤوسهم، ما جعل إسحق رابين، رئيس الحكومة الإسرائيلية الأسبق، يصف اللاجئين بأنهم "قنبلة زمنية".

غدا سكان المخيمات يشكلون جزءاً أساسياً من القاعدة الاجتماعية للمقاومة، ينتمي معظمهم للطبقة العاملة، أو البرجوازية الصغيرة، ويتحلون بدرجة عالية من الاستعداد النضالي، سواء بسبب بؤس أوضاعهم المعيشية، أو غموض مستقبلهم السياسي ضمن أية تسوية مطروحة.

فلا عجب إذن أن تنطلق شرارة الانتفاضة الأولى من مخيم جباليا، شمال قطاع غزة، ومخيم بلاطة، شمال الضفة الغربية، وأن تكون جميع المخيمات بؤرا مشتعلة طوال الوقت، وتقدم نسبة عالية من مجموع الشهداء والجرحى والمعتقلين.

ولم يكن أمراً عادياً أن تشكل مخيمات الضفة والقطاع قلاعاً مركزية ومحطات واسعة للمقاومة أسوة بغيرها من المناطق والتجمعات السكنية، بل جاء تفاعلها أسرع من بقية المواقع الأخرى، فجباليا وبلاطة أصبحا رمزين واضحين لمسيرة المخيمات التي اتبعت المنهجية الثورية التنظيمية على مستوى الشعب، وظروف المخيمات التي تحياها ساعدت في هذا الإنضاج، ما أهّلها لحمل سمات الانتفاضة حتى قبل بدئها.

وكان لظروف مخيمات اللاجئين من الفقر والاكتظاظ السكاني والحيّز الجغرافي الضيق الذي يحوي عشرات الآلاف من السكان في ظروف معيشية صعبة للغاية على كافة الأصعدة، دورها البارز في تأهيلها بتوفير مقومات الثورة المنظمة للتمرد دوماً على واقع الاحتلال، فجاءت المخيمات ممثلة الإطار الشعبي الأوسع الذي احتضن هذه المنهجية وطورها، حتى أن الاحتلال أقدم على بناء سور عال في نهاية حدود كل مخيم، بالإضافة للأسلاك الشائكة وإغلاق كافة مداخلها بالجدران الإسمنتية العالية لفصلها عن المحيط الخارجي.

وقد كرست حالة المقاومة التي عاشتها مخيمات اللاجئين في الأراضي المحتلة أخلاقيات مجتمعية انتقلت بها إلى حيز التنفيذ العملي، وأبرز تجلياتها تمثلت بترسيخ قاعدة عامة للتعاطي مع المشاكل، بدلا من الاستغراق في تحليل وتحديد المصاعب والتعقيدات الناجمة عنها. ولعل في مقدمة المؤشرات الاجتماعية للمقاومة، نجاحها بتوفير بنية تحتية عريضة لحياة مستقلة معزولة عن الاحتلال في الضفة والقطاع، حيث تكونت أجهزة طبية وزراعية وتربوية وجهاز شرطة، وجميعها مستقلة.

أخذت مشاركة الفلاحين واللاجئين في فعاليات المقاومة بالازدياد، فانخرطوا في دعم المدن والمخيمات بالمواد الغذائية أثناء فترات الحصار المفروض عليها، وساهموا بفعالية في الاقتصاد المنزلي، واستجابوا لنداءات المقاومة التي دعتهم لاستصلاح الأراضي وزراعتها، ومساندة المناطق المحاصرة، وتعزيز مفهوم الاقتصاد المنزلي، كزراعة الأرض وتربية الدواجن، وتشكيل اللجان الزراعية.

أمام كل ما تقدم، دأبت إسرائيل على طي صفحة ما حدث سنة 1948، عن طريق إزالة المخيمات، ومحو صفة اللاجئ عن الفلسطينيين الذين تم تشريدهم بالقوة، من خلال حرب شاملة شنتها ضد الوجود الفلسطيني في المخيمات داخل فلسطين.

وإن ما قامت وتقوم به "إسرائيل" في المخيمات الفلسطينية، يتعدى وصفه بـ"الترانسفير الجديد"، وهو الاسم الملطف للتطهير العرقي، ويمكن تسميته بسياسة اغتيال المكان، أو إلغاء فلسطينيته.

ولذلك، فإن مخيمات اللاجئين لا تتعرض للهجمات الإسرائيلية لأنها فقط الشاخص البارز والشاهد المقيم على جريمة النكبة التي أحاقت بالشعب الفلسطيني فقط، بل لأن أهل هذه المخيمات كانوا دوماً طليعة المقاومة، ما جعل هذه المخيمات تتجاوز في نظر إسرائيل كونها مسألة شرائح سكانية فحسب.

المصدر: العربي الجديد