المرحلة الجـديـدة فـي مخيـم «نهـر البـارد»: «أسئلـة» فـي موضـوع استـلام البيوت
اسماعيل الشيخ حسن
يتقبل الكثير من الأهالي في نهر البارد الوضع القائم في المخيم، بحواجزه وتصاريحه وقيود الحريات والاعتقالات والبيروقراطيات، على أساس أنه وضع «مؤقت». والتعامل مع حالة «المؤقت» هو اختصاص فلسطيني بامتياز بعد خبرة دامت أكثر من ستين سنة خاض خلالها تجربة طويلة من الصبر على المؤقت من جهة ورفضه والثورة عليه من جهة أخرى.
ومن الواضح أن أهل المخيم يتفهمون اليوم ضعفهم كمجتمع، والمأزق الذي وقعوا فيه بعد تسَلُم مستقبلهم ومخيمهم من قبل الحكومة والجيش في لبنان. ولا حيلة لهم اليوم غير الصبر على وضع «مؤقت» جديد. فنهر البارد اليوم هو ساحة تستفرد فيها السلطات اللبنانية على أرضٍ تسيطر عليها عسكرياً، وإعمار تتحكم به تمويلاً وإجرائياً، ومجتمع تسيطر عليه أمنياً وقانونياً، من دون أي نوع من الشراكة أو الحوار مع الفلسطينيين.
ولتريث أهل نهر البارد وفشل الحوار الفلسطيني اللبناني علاقة مباشرة بالوضع الفلسطيني الداخلي. فضمن الانقسام الفلسطيني وصراعاته الداخلية الدائمة حول «من يمَثل»، وغياب آليات التمثيل والمشاركة الحقيقية للاجئين الفلسطينيين بمؤسساتهم الفلسطينية المتنوعة، تتهمش القدرة الفلسطينية على الاحتجاج الفعلي والتخطيط لمستقبل أفضل والتفاوض والحوار مع الطرف اللبناني.
وبناءً على تلك المعطيات، يعبّر أهل نهر البارد عن صبرهم على الوضع القائم إلى حين الانتهاء من الإعمار وعودتهم إلى بيوتهم وأحيائهم. فالجميع يرى مصدر قوته المجتمعية في وجوده على أرض المخيم سويةً بعد شتات إضافي طال أكثر من ثلاث سنوات. ويعتبر كثيرون في المخيم أنه فقط حين تتمّ «عودتهم»، يمكنهم مواجهة أي عقبات لحياتهم اليومية من قبل أي سلطة تحاول الهيمنة عليها. وسيكون ذلك، للأسف، المشهد الأول لحوارٍ فلسطيني ـ لبناني فعلي في نهر البارد.
ويتوقّع أن نشهد التحول الأولّ من واقع «المؤقت الحالي» في نهر البارد إلى الوضع «الحقيقي والمخطط له»، مع اقتراب تسليم المجموعة الأولى من البيوت التي انتهى إعمارها. لكن السؤال الحقيقي هو ليس «هل» أو «متى» سوف يتم تسليم البيوت؟ بل «كيف»؟. لأن كيفية تسليم البيوت سوف تعلِن رسميا عن مجموعة من الحقائق والنوايا المتعلقة بمستقبل نهر البارد من قبل الجهات الرسمية. ومن المرجّح أن تتضح بعض تلك الحقائق، التي تم تأجيل نقاشها علناً في السنوات السابقة، من خلال اتفاقية تفاهم سيطلب توقيعها بين أصحاب البيوت وبين الجهة الرسمية التي سوف تسلم بيوتهم.
كثرت الشائعات في نهر البارد حول تلك الاتفاقية، وتضاربت تصريحات مسؤولي الحكومة اللبنانية و»وكالة غوث اللاجئين الفلسطينيين» (الأونروا)، حول مضامينها. وقد تم تداول مسوّدة أولية داخلياً بين الأطراف الرسمية بينت المعالم الأساسية للنقاش. إلا أنه لم يتمّ نشرها بعد. وتهدف هذه المقالة، التي تناقش المسوّدة الأولية لاتفاقية التفاهم، إلى نقل النقاش المغلق حولها إلى العلن، مما يسمح للمعنيين بالاتفاقية الاطلاع على مضمونها. ويجبر الأطراف المسؤولة على مواجهة ردات فعل ومطالب المجتمع. فالقرارات المتعلقة بإعمار أو بمصير البارد، إن كان مشروعاً لتأهيل بيوت أو رؤية لعلاقة المخيم مع دولة، قلما تؤخذ بالإجماع أو تنتج من مشاركة ونقاش فعلي مع المجتمع. لا بل معظم تلك المشاريع تناقش في جلسات خاصة، ويؤخذ القرار ويصرف التمويل ويوظف المسؤولون ويبدأ العمل بدون مشاورة المعنيين الفعليين بالمشاريع.
الأسئلة الأساسية التي وجب طرحها حول كيفية تسليم البيوت هي الآتية:
من هي الجهة التي سوف تسلّم أهالي المخيم بيوتهم؟
تفيد بعض التصريحات الحكومية غير الرسمية بأن الحكومة نفسها سوف تكون تلك الجهة. والجدل حول تسليم البيوت هو ليس حول من سيقوم فعلياً بتسليم المفتاح لللاجئ، بل حول الجهة التي سوف يوقّع اللاجئ معها اتفاقية حول تفاصيل استخدام بيته. وإن صحت التصريحات الحكومية المذكورة، فإن ذلك يشكّل التحوّل الرسمي الأول، الجديد والدائم، في العلاقة بين اللاجئ وحكومة الدولة المضيفة، والتي يمكن أن يكون لها تداعيات سياسية خطيرة. إذ إنها تنقل شأن اللاجئ الفلسطيني من تحت مظلة «وكالة الغوث الدولية» لتصبح علاقة مباشرة بين اللاجئ والدولة المضيفة. ولا نحتاج للخوض مطولاً بأهمية بقاء المسؤولية بأيدي «الأونروا» كإصرارٍ دائم على أن مسؤولية اللاجئين الفلسطينيين هي مسؤولية دولية، وتقع على عاتق الأمم المتحدة بسبب دورها التاريخي في تقسيم فلسطين وفي خلق حالة الشتات واللجوء الفلسطيني.
ولم يحدث سابقاً في لبنان ولا في دول أخرى مضيفة للاجئين الفلسطينيين أن اعتمدت اتفاقية إعمار أو تأهيل مسكن لاجئ فلسطيني بين حكومة ولاجئ في ظل تغييب لدور «الاونروا». وإن أُثبت بأن «الأونروا» لن تكون طرفاً أساسياً (على الأقل) في اتفاقية كهذه. فذلك سوف يكون مكملاً لسياسة تقليص الخدمات والتمويل التي يحتج عليها اللاجئون الفلسطينيون في كل مخيمات الشتات. ولكن هذه المرة سوف يأخذ الحدث بعداً سياسياً أكثر أهمية، يتجلى بتقليص «المسؤوليات»، وليس الخدمات فحسب.
من يملك البيوت الجديدة في المخيم؟
إن أي اتفاقية لتسليم البيوت ستتضمن بنداً يشير إلى موضوع ملكية البيوت من الناحية القانونية. ومن المهم التذكير بأن البيوت التي دمرت قد بناها سابقاً أهل المخيم، بعدما رفضوا مجموعة من مشاريع الإسكان والتوطين التي تعود إلى فترة الخمسينيات. ويعتقد بعض الأطراف في الحكومة اللبنانية أن البيوت التي تم إعمارها قد أصبحت ملكاً للدولة اللبنانية التي «ستسمح» بإقامة اللاجئين فيها.
ويتبيّن من خلال تلك الاتفاقية أن اللاجئ سيمنع من بيع وتأجير وحتى توريث مسكنه بدون موافقة الجهات الحكومية. وأن للدولة الحق بالاستيلاء والتصرف بالمسكن إن غاب صاحب البيت عن مسكنه لمدة طويلة. وتلك الاعتبارات، إن صحت، ليست سوى إعادة إحياء لمجموعة من القوانين القديمة التي كان يعمل بها في الستينيات من القرن الماضي. ومثال ذلك «بلاغ 321»، ومنه: «عطفاً على البلاغ الصادر عن معالي وزير الداخلية بتاريخ 8/1/1962، والذي ينذر كل لاجئ فلسطيني مقيم (....) أَجر قسماً من مسكنه (...) بمصادرته حالاً. حيث إن الكثير من الاجئين قد أقدموا في المدة الأخيرة على تأجير منازلهم أو قسم منها خلافاً لما يقضي به القانون. (...) إقدام اللاجئ على تأجير مسكنه أو قسم منه سوف لا يعرضه لمصادرة هذا المسكن فحسب، بل سيعرضه من الآن فصاعدأ إلى إبعاده عن المخيم القاطن فيه».
وإن صحت تلك التقارير، فإن ذلك سيشكّل صدمة أخرى لأهالي المخيم. فخلال السنوات الماضية دمرت بيوت الأهالي بعد تعاونهم مع الجيش في مواجهة «فتح الإسلام»، ليكتشفوا أن بيوتهم التي بنوها تاريخياً والتي مولت دول مانحة إعادة إعمارها أصبحت فجأةً ملكاً للدولة ضمن قيود «استخدام» صارمة.
من يدير المخيم؟
كل منطقة عمرانية بحاجة لمجموعة من القوانين والأنظمة والأعراف التي تحمي الحقوق الخاصة والحيز العام. ولكن من يحدد تلك المفاهيم؟ ومن يطبقها في نهر البارد بعد إعماره؟ للدولة تصور شبه واضح حول الموضوع بانتهاء تدريب أولى دفعات من «الشرطة المجتمعية» في الولايات المتحدة، والإصرار الدائم على بناء مخفر الشرطة في عمق المخيم القديم.
وعندما يقرأ كل لاجئ نص اتفاقية تسلم البيوت، سوف يبحث عن أجوبة لأسئلة بسيطة ولكن مهمة في مجتمع أهالي المخيم: هل سيمكننا بناء طابق جديد فوق بيتنا لابننا إذا ما قرر الزواج؟ هل سيمكننا تأجير الغرفة بالطابق الأرضي لجارنا الخباز؟ هل سيسمح لأخي بائع الخضار المتجول أن يعمل كما عهد في المخيم؟ هل سيسمح لأختي طبيبة الأسنان بفتح عيادتها في المخيم رغم قيود قوانين العمل في لبنان؟ ويبدو من قراءة النصوص الأولى للمسوّدة أن كل ذلك سيعتمد على «موافقة الجهات الرسمية» بالحكومة اللبنانية. وفي هذه العبارة بالذات، تكمن المشكلة. حيث ستتحكم جهات حكومية، لا يمكن للاجئ الفلسطيني مساءلتها بالتفاصيل اليومية في حياة أهالي مخيم نهر البارد. سوف يكون لتلك الجهات السلطة لتحديد من يكافأ ومن يعاقب. وبالتالي سوف يحكم المخيم مجموعة من البيروقراطيين والأمنيين الذين يتبعون قوانين تمييزية باتجاه الفلسطينيين (مثل قيود العمل ومنع التملك للفلسطينيين).
كل شخص في نهر البارد قلق جداً حول مستقبل مخيمه. ولكن بإبراز عنوان: «مخيم نهر البارد النموذج»، يحق للاجئين الفلسطينيين القلق على مستقبل مخيماتهم الأخرى أيضاً. وللأسف، يتحمل مخيم نهر البارد وحده عبء تحول تاريخي سيكون له تأثيره على كل المخيمات في لبنان على الأقل. ولا يمكننا أن نتغاضى اليوم عن تصريحات لمسؤول «الأونروا» في نيويورك، أندرو ويتلي، في 22 تشرين الأول الماضي، عندما قال: «إن الفلسطينيين يجب أن يفقدوا الأمل من نيلهم حق العودة وأن على الدول العربية أن تقوم بإسكانهم». وحتى إن اعتذر لاحقاً، وتم إنكار تصريحاته من قبل «الأونروا»، فإن الواقع على الأرض له دلالات مختلفة. من الواضح أن وكالة «الأونروا» أصبحت بنوع من المأزق بعد مرور أكثر من ستين سنة على عملها. فقد تغير واقع المخيم الفلسطيني وتعقّد مع ازدياد كثافته ومساحته وكثرة قضاياه. ويتبين أن «الأونروا» مترددة لتبني أي نوع من المسؤوليات الجديدة في المخيمات، رغم تطور واقع اللجوء الفلسطيني. وأنها على استعداد لتقليص بعض من خدماتها ومسؤولياتها إذا اقتضت الظروف ذلك. وللأسف، نرى في موضوع مسوّدة اتفاقية التفاهم في نهر البارد، تغاضي «الأونروا» عن كل الدروس التي تعلمتها في مشاريع الإعمار والتأهيل السابقة حول التعامل مع الدولة المضيفة بخصوص موضوع حقوق اللاجئين في استخدام بيوتهم والتصرف بها.
ومن الأمثلة المهمة في نهر البارد، ما حصل في المخيم الجديد، أي الأمتداد العمراني لمخيم «الأونروا» الأصلي، حيث يقطن أكثر من ثلث أهل المخيم. تجنبت «الأونروا» أن يكون لها دور ومسؤولية بإعمار المباني المهدمة في تلك المنطقة، مشددةً على المسؤولية تقع على عاتق الدولة اللبنانية. وأرادت أن تتجنب سابقة أخرى من الإعمار بتمدد المخيمات، كما فعلت سابقاً في قطاع غزة. وذلك كان ضمن مسؤوليتها بإغاثة اللاجئين الفلسطينيين أينما كانوا بمناطق عملها.
وواقع الحال، أن العقود المقبلة ستشهد ازديادا كبيراً في عدد اللاجئين في التوسعات السكانية حول المخيمات بسبب النمو السكاني وعدم قدرة النسيج العمراني في المخيمات الأصلية من تحمل زيادة سكانية كبيرة. وأوقع تجرّد «الأونروا» من مسؤولياتها في المخيم الجديد، أهالي البيوت في مأزق صعب أمام دولة تعتبر بيوتهم وملكيتهم غير قانونية. وذلك نموذج حقيقي لعدم قدرة الدولة على التعامل مع الواقع الفلسطيني وعلى حاجة الفلسطينيين الحقيقية لدور الوكالة الدولية. ومن أهم مسؤوليات «الأونروا» اليوم، هو بندها، الجديد نسبياً، لحماية اللاجئين الفلسطينيين إلى جانب إغاثتهم. لذلك فإن وجود «الأونروا» رسمياً ضمن أي أتفاقية تتم بين الحكومة واللاجئ، ليس سوى استكمال لمسؤوليتها في حماية حقوق اللاجئين الفلسطينيين المتردية أكثر وأكثر في لبنان.
ومن جهة أخرى نرى حماسة واضحة من الحكومة اللبنانية والمؤسسات الأمنية للدخول إلى المخيم وفرض السيطرة عليه، دونما اكتراث لعواقب تلك السياسة على الحياة اليومية لأهل المخيم. فبعد فشل الحكومة الذريع في المخيم الجديد، بعد دخولها أمنياً و»قانونياً»، بالشروع بآلية لإعمار البيوت في المخيم الجديد، لا يمكن إلا أن نتساءل عن قدرتها على العمل مع أي من القضايا اليومية في مخيم نهر البارد القديم. أما العواقب السياسية، فيبدو أنها تختفي وتتلاشى كلياً بإعادة تكرار الشعار السحري من قبل المسؤوليين اللبنانيين: «عدم التوطين والتمسك بحق العودة». وذلك رغم تناقض الواقع على الأرض مع الشعار وفي ظلّ غياب لتصور عن دور اللاجئ الفلسطيني بتحقيق حق العودة. ويبدو أن النظرية التاريخية حول واقع المخيمات ما زالت قائمة بأن المخيم الفلسطيني لا يمكن أن يكون إلا حالة من اثنتين: إما ساحة نضال لنيل الحقوق وتقرير المصير والتحرر والتحرير، وإما سجناً كبيراً وساحة قمع وسيطرة من سلطة وأمن متخوفين من واقع راديكالي يمكن أن يرتد على مأساته التاريخية والآنية في أي لحظة.
المصدر: جريدة السفير