المصالحة الفلسطينية: أبعاد
إقليمية وآثار دولية
بقلم: فادي الحسيني
ما أن دشنت المصالحة الفلسطينية
طريق اندمال جرح نازف منذ سنين، تمايزت الأصوات في الداخل الفلسطيني بين متفائل
ومتشائم، بين واثق ومشكك، وبين مستفيد وغير مستفيد. ولكن، الأمر المؤكد هو أن
المصالحة الفلسطينية، بمنتوجها المتثمل بحكومة الوفاق طوت صفحة أليمة من تاريخ
الشعب الفلسطيني، ونحت جانباً عاملاً اعتبر من أكثر ما ألحق الأذى بقضية الشعب
الفلسطيني ومصداقية نضاله التاريخي. وبعيداً عن أي أبعاد داخلية، شقت المصالحة
الفلسطينية صحيفة الأمر الواقع، ليس فقط في الإقليم والمنطقة، بل على مستوى العالم
أجمع.
جاءت المصالحة بعد سنوات من
المحاولات، وتركت محاولة مصر- المسؤولة عن ملف المصالحة، ومحاولات كل من السعودية
وقطر وتركيا وغيرها، بصمة، سهلت- ولو قليلاً- من المحاولات التالية، وصولاً لاتفاق
الشاطئ الذي جاء كمحصلة لجميع المحاولات السابقة.
"إسرائيل"، أرادت
وسهلت ودعمت الانقسام، بل ودفعت خلال السبع سنوات الماضية في سبيل تكريس انفصال
قطاع غزة عن الضفة الغربية، سياسياً وجغرافياً. الرد الإسرائيلي لم يكن مفاجئاً، والإعلان
عن بناء ثلاثة آلاف وحدة استيطانية لم يتعد حدود التوقع، أما إن كان الحديث عن ضم
أجزاء من الضفة الغربية (أراضي مناطق C) هو أقصى ما تستطيع "إسرائيل" فعله في سبيل التنفيس عن
غضبها، فإن صاحب هذا القرار «إن اتخذ» يعلم كل العلم أن سياسة الضم هذه ولّى
زمانها، ولن يتكرر ما حدث في السابق مطلقاً. "إسرائيل" راهنت بكل ثقلها
على استمرار الانقسام، ورأت فيه مخرجاً مقنعاً عند الاقتراب من أي تسوية، فتذرعت
بخضوع قطاع غزة لسيطرة حماس تارة، وبعدم القدرة على بسط السيطرة أو تطبيق أي
مخرجات عن اتفاق مع القيادة الفلسطينية على كافة الأراضي الفلسطينية تارة أخرى، وكانت
دوماً تدفع في اتجاه استقلال سياسي لقطاع غزة عن باقي الأرض الفلسطينية، ما كان
سيعتبر صفعة قاســـية لأي جهود سياسية تتعلق بحل عادل موحد للقضية الفلسطينية.
صدمت المصالحة قادة
"إسرائيل"، بعد أن ظنوا أن هذه الجهود الأخيرة لن تتعدى نتائجها الجهود
السابقة، فلم تمانع مطلقاً بزيارة ممثلي فتح والقيادة الفلسطينية لقطاع غزة، حتى
لا تظهر وكأنها المعطل، ولكن ما أن تم تدشين المصالحة، كشفت "إسرائيل"
عن وجهها الحقيقي، فلم تمنع فقط تنقل وزراء قطاع غزة لحفل اليمين أمام الرئيس
الفلسطيني في رام الله، بل شددت عقوباتها بإلغاء بطاقات التنقل الخاصة لجميع
المسؤولين الفلسطينيين.
يمكن القول ان المصالحة وضعت
حداً لأوهام قادة "إسرائيل" الذين ظنوا أن الانقسام سيدوم طويلاً، وسيبقى
مخرجاً يمكن استغلاله عند الحاجة. صعوبة المصالحة هذه تحسسها البعض في
"إسرائيل"، فكتب الكاتب الأمريكي الإسرائيلي ألون بن مائير، أن المصالحة
هذه ستزيد من عزلة "إسرائيل" ونتيناهو دولياً، داعياً جميع الأحزاب
الإسرائيلية للتحرك من أجل وقف عزلة "إسرائيل" بسبب سياسات نتنياهو
ورفاقه.
وبالفعل، لم يجانب هذا الكاتب
الصواب، فبعد أن كانت قرارات ومواقف "إسرائيل" تحظى بالدعم الدولي، خاصة
في أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية، باتت الأمور مختلفة كثيراً الآن، فباركت
معظم دول العالم المصالحة الفلسطينية، وقررت التعامل مع حكومة الوفاق.
أوروبياً، شكل موقف الاتحاد
الأوروبي، الذي تمثل في بيان باركت فيه كاثرين أشتون حكومة الوفاق الفلسطينية، استمراراً
لاتساع الفجوة في المواقف الأوروبية الإسرائيلية، كما أن التعقيب الأوروبي على
إعلان إسرائيل "العقابي" ببناء وحدات استيطانية بعقوبات أوروبية على
منتجات المستوطنات، يُعتبر نصراً جديداً، يُسجل للدبلوماسية الفلسطينية، التي حققت
نصراً تلو آخر في الفترة الأخيرة.
أما الموقف الأمريكي، فنقل آثار
المصالحة الفلسطينية لتأخذ بعداً عالمياً، تعدى حدود الإقليم والداخل الفلسطيني، فكان
الموقف الأمريكي الأكثر تقدماً، حيث بدت الهوة بين المواقف الأوروبية والأمريكية
حيال القضية الفلسطينية أكثر قرباً مما مضى، فتشابه كثيراً التصريح الأمريكي مع
البيان الأوروبي المرحب بالمصالحة، والمراقب للخطوات المقبلة لحكومة الوفاق
الفلسطينية.
هذا التطور يعتبر نصراً، وخطوة
مهمة يجب أن يُبنى عليها، خاصة أن كلا الطرفين (الأمريكي والأوروبي) انتقدا
تصريحات "إسرائيل" المناوئة لحكومة الوفاق، وما تبعها من تهديد ووعيد.
قد يعتقد البعض أن الموقف الأمريكي لم يتغير كثيراً، ولكن بنظرة خاطفة للمواقف
الأمريكية السابقة، نرى أن مجرد القبول الأمريكي بفكرة حكومة وفاق بدعم وتأييد
حركة حماس، كان ضرباً من ضروب المستحيل. هذا التطور أخذ سنوات طويلة من العمل، وقد
نحتاج لسنوات أخرى من أجل تحقيق اختراق مشابه يضع "إسرائــيل" في وحدة
أكبر وأشد وطــــأة تجعلــها تحس بثمن عدم إنهاء هذا الصراع من الجانب الفلسطيني.
إقليمياً، يمكن القول ان عددا من
الظروف الإقليمية سهلت هذه المصالحة، فتنحي القوة الإسلامية عن الحكم في تونس
طوعاً، وفي مصر قسراً، إضافة لتطور الأحداث في سوريا، وما لحقها من تطورات في
لبنان، دفعت الفرقاء الفلسطينيين لإعادة النظر في سياساتهم الداخلية. تعتبر هذه
الظروف الجانب الإيجابي من أحداث الربيع العربي، التي دفعت الفلسطينيين لتوحيد
جهودهم من أجل إعادة تماسك البنية الداخلية أمام هذه التحديات الكبيرة، بعد أن
أصيبت القضية الفلسطينية بنكسة تلو نكبة منذ اندلاع أحداث الربيع العربي، حيث ضعفت
القوى العربية الداعمة تاريخياً للقضية الفلسطينية، وتشتت انتباه العرب قبل الغرب
بعيداً عن القضية وعن ممارسات "إسرائيل" تجاه البشر والحجر في فلسطين.
ما زال الأمل في أن تحمل السنوات
المقبلة نتائج أكبر أثراً وأكثر أهمية للربيع العربي على القضية الفلسطينية، فالحراك
الديمقراطي في الوطن العربي سينتج بلا شك قيادات أكثر نضجاً وانتماء لقضايا العرب،
التي تأتي القضية الفلسطينية في مقدمتها، فما أن سهلت بريطانيا دخول اليهود لأرض
فلسطين، باتت القضية الفلسطينية رمزاً للخيانة الغربية لجهود العرب التحررية
المتمثلة في الثورة العربية الكبرى، التي لحقها تقسيم بلاد العرب بين الإنكليز
والفرنسيين في اتفاق سايكس بيكو.
ومع كل هذا، تبقى المصالحة الفلسطينية
غير منيعة بما يكفي أمام عواصف التحديات. يأتي ملفا الأمن والمال على رأس هذه
التحديات، فبعد سبع سنوات من الانقسام، خُلق واقع أمني مختلف بكافة تفاصيله في
بقعتي الوطن، ويظل منتفعون هنا وهناك من الانقسام قد يعملون على تخريب أي اتفاق أو
بسط الأمن. أمًا سبل تأمين أموال لدفع أجور الموظفين المعينين من حركة حماس في
قطاع غزة، فيعتبر تحديا آخر، كما أنه ومع استمرار اقتصاد يعتمد بشكل رئيس على
الخارج، يضاف ارتفاع فاتورة النفقات العامة التي يأتي على رأسها الجسم الحكومي
المتضخم، والعجز المتوقع في حال فرضت "إسرائيل" عقوبات اقتصادية أو في
حال تخلف أي بلد داعم عن دفع التزاماته، إلى قائمة التحديات المالية.
ولكن يجب على جميع الفرقاء عند
هذه اللحظات الدقيقة تحديد حجم المخاطرة والخسائر الجمة في حال أًفشلت هذه
المصالحة مرة جديدة، فبعد أن حققنا اختراقات كبيرة على مستوى الإقليم والعالم، وبعد
أن خطونا خطوة مهمة للأمام، بات خيار التراجع غير مقبول، بل ومرفوضاً.
القدس العربي، لندن، 14/6/2014