القائمة

مواقع التواصل الأجتماعي
السبت 30 تشرين الثاني 2024

المصالحة الفلسطينية

المصالحة الفلسطينية

بقلم: عبد الستار قاسم

من أولويات الشعوب والأمم المحافظة على وحدة أبنائها ومكوناتها لتلافي ما قد ينجم عن التفسخ والانقسام من أضرار، ولتكتسب بوحدتها قوة تمكنها من مواجهة التحديات عظمت أو صغرت.

وتؤكد التجارب التاريخية أن الأمم والشعوب المفتتة تدفع الثمن غاليا، ويطغى على أبنائها الحقد والكراهية والبغضاء، أما الأمم الموحدة فتشق طريقها نحو الإنجازات والإنتاج والتقدم والرخاء.

الأمم المنقسمة تعيش حالة جزر تتدهور بالمزيد، أما الأمم الموحدة فتحيا حالة مدّ ترتقي بالمزيد.

هكذا هو شأن الفلسطينيين: قوتهم في وحدتهم، وضعفهم بانقسامهم، ومن المنطق والعقلانية ألا يهدأ لهم بال وهم غير موحدين، وإذا كان لهم أن يواجهوا التحديات المتراكمة فلا مفر أمامهم إلا أن يعودوا إلى سابق عهدهم.

الاتفاق الجديد

لم يكن الاتفاق الذي أعلنت حماس ومنظمة التحرير التي هي حركة فتح من الناحية العملية عن التوصل إليه لإنهاء الانقسام الفلسطيني هو الأول من نوعه، وقد سعد الشعب الفلسطيني بهذا الاتفاق وله رجاء أن يتم تطبيقه هذه المرة.

فقد سبق للفصيلين الكبيرين المتخاصمين أن وقعا اتفاقيات، لكنهما لم ينفذا، حاولا عام 2007 التنفيذ عندما شكلا حكومة الوحدة الوطنية، لكنها حكومة لم تصمد، وسرعان ما انهارت وتشكلت حكومتان إحداهما فتحاوية في الضفة الغربية، والأخرى حمساوية في قطاع غزة.

كان يجتمع ممثلو الفصيلين ويعلنون أنهم على وشك التوصل إلى اتفاق، أو أنهم توصلوا فعلا إلى اتفاق، وكانوا يرفعون من منسوب التوقعات المتفائلة لدى الشعب الفلسطيني، ثم ما يلبث الطرفان أن يختلفا ويتبادلا التهم.

لقد تلاعب الفصيلان بمشاعر الشعب الفلسطيني، وعمل كل طرف على القول بأنه هو الذي يبحث عن المصالحة، والطرف الآخر هو الذي يعطل. لم يشأ أي فصيل تحمل المسؤولية، وكلاهما أرادا إيصال رسالة للشعب الفلسطيني مفادها أن المصالحة هدف كبير ومهم يجب تحقيقه.

وقد عبر عزام الأحمد عن المأساة عندما قال في المؤتمر الذي أعلنت فيه المصالحة إن الحوارات السابقة بين الفصيلين لم تكن جادة، وإن هذه المرة (المرة التي أعلن فيها عن الاتفاق الأخير) هي الوحيدة التي كانت جادة. وهذا يعني أن الفصيلين لم يكونا صادقين مع الشعب الفلسطيني، وأن جلسات الحوار السابقة كانت من قبيل التسلية.

المصالحة أم الوحدة

ركزت الجهود عبر السنوات السابقة على المصالحة بين حماس وفتح، ولم تتم الإجابة عن السؤال: ماذا سيحصل لو تصالح الفصيلان ثم اختلفا؟ هل ستعود الساحة الفلسطينية تدفع الثمن من جديد، ومن سيتحمل المسؤولية؟

هنا مشكلة المصالحة وهي ربط وحدة الشعب الفلسطيني بالفصيلين اللذين يمكن أن يختلفا في أية لحظة. كان الأجدى أن يتم التركيز على الوحدة الوطنية لأنها تجمع كل أبناء الشعب الفلسطيني وليس فقط الحمساوية والفتحاوية.

تحتاج الوحدة الوطنية الفلسطينية إلى ميثاق وطني أو دستور فلسطيني يُجمع عليه الفلسطينيون في كافة أماكن تواجدهم من فصائل وأحزاب ونقابات واتحادات وشخصيات اعتبارية.

الشعب الفلسطيني الآن بلا ميثاق وإذا حصل شرخ أو انقسام لا يوجد لديه مقياس لمحاسبة من يتسبب بالانقسام. تقريبا ألغت منظمة التحرير الفلسطينية ميثاقها عام 1996 لتفقد مكانتها في جمع الشعب الفلسطيني ولمِّ شمله، ولم يعمل الفلسطينيون على صياغة ميثاق جديد، ولم تتحرك الأطر القانونية لجمع الفلسطينيين حول دستور جديد.

ثم من المطلوب إعادة ترتيب منظمة التحرير الفلسطينية وفق الميثاق الجديد بحيث يشارك فيها الجميع، ومن ثم إنشاء محكمة دستورية لمحاكمة الفصائل والأشخاص والأحزاب التي يمكن أن تنتهك الميثاق.

طورت منظمة التحرير في السابق القانون الثوري الفلسطيني لضبط سلوكيات الأشخاص والفصائل لكنها لم تطبقه، وكان رئيس المنظمة أكثر الناس اختراقا وانتهاكا لبنود الميثاق. لم يحاسب أحد في السابق ولم يسأل، وإذا سعى الفلسطينيون نحو الانضباط فإن عليهم الالتزام بما يكتبون.

هل سيطبق الاتفاق؟

يعاني الاتفاق الأخير الذي تم توقيعه من المآخذ التالية والتي يمكن أن تعرقل تطبيقه:

1- يخلو الاتفاق من المبادئ والأسس التي يستند إليها. لا توجد مبادئ وأسس بينة وواضحة ينطلق منها الميثاق، وصياغته أشبه ما تكون بمصالحة عربية تتميز بـ"بوس اللحى".

الاتفاق إجرائي وليس مبدئيا. اتفق الفصيلان على إجراءات منها تشكيل حكومة وحدة وطنية بقيادة عباس، وإجراء انتخابات رئاسية وتشريعية في الضفة وغزة، لكنهما لم يشيرا إلى مبادئ تحكم تصرفاتهما أو تحكم عمل الوزارة القادمة.

المبادئ والأسس تضبط الإجراءات، وغيابها يعوم الإجراءات ويجعلها قابلة للتفسيرات المتعددة والخلافات السريعة. الشعب الفلسطيني بحاجة إلى مبادئ توضح الموقف من المفاوضات، ومن التنسيق الأمني، وإعادة بناء المجتمع الفلسطيني، والاعتماد على أموال تأتي من دول معادية مثل الولايات المتحدة، وترسيخ الوحدة الوطنية. ولم يتناول الاتفاق مبدأ واحدا، الأمر الذي يبعث الخشية في النفس من أن الفصيلين ليسا جادين في التنفيذ.

المشكلة ستظهر عند التطبيق. من يملك الحق في تفسير التطبيق ووفق أي مقياس أو مبدأ؟ بالأمس قال عباس إن الحكومة الجديدة تعترف بإسرائيل، وتحترم الاتفاقيات معها. ردت عليه حماس بالقول إنها لن تعترف بإسرائيل. ما العمل؟

الحكومة ستشمل مؤيدين لحماس وآخرين مؤيدين لفتح. بعضهم سيعترف بإسرائيل وسيتصرف وفق هذا الاعتراف، والآخرون لن يعترفوا بإسرائيل وسيتصرفون وفق هذا. فكيف ستكون هذه الحكومة موحدة؟ وماذا عن التنسيق الأمني. على فرض أن وزير الداخلية فتحاوي ووكيله حمساوي. الفتحاوي سيلتزم بالتنسيق الأمني، والحمساوي سيعتقل من يعتقل المقاوم؟ الوكيل سيعتقل الوزير، أو لن ينفذ أوامره. هذه مسائل كان يجب الاتفاق عليها مسبقا، لا أن تترك لتخريب المصالحة.

2- شاع في وسائل إعلام كثيرة أن الاتفاق ناجم عن حاجة الطرفين حماس وفتح بسبب ما يمران به من مآزق. حماس تعاني من الحصار ونقص في الأموال، وفتح تعاني من فشل المفاوضات، فاضطر الطرفان لصياغة اتفاق. إذا كان هذا صحيحا، فهناك مشكلة لأن الاتفاق سيكون اتفاق ضرورة وليس اتفاق حرص على وحدة الشعب، وإذا كانت الضرورة هي التي ساقت الفصيلين إلى الاتفاق، فإن الاتفاق سيتلاشى إذا تلاشت الضرورة. إذا زالت العلة زال المعلول.

كان الأمل أن يكون الاتفاق بدافع الحرص على المصلحة الوطنية الفلسطينية وليس البحث عن اتفاق لإخراج الفصيلين من مآزق. الشعب الفلسطيني في مأزق كبير، بل يواجه مآزق عديدة، ومن المفروض أن تكون هذه المآزق هي الدافع الحقيقي لتحقيق الوحدة الوطنية الفلسطينية. وأساسا لو كان هناك حرص على الوحدة الوطنية، لما حصل الانقسام والاقتتال.

3- وضع الاتفاق منظمة التحرير بالصدارة على اعتبار أنها المسؤولة عن إدارة شؤون الفلسطينيين في الداخل والخارج. منظمة التحرير هذه تعمل بدون ميثاق أو دستور، وهي تتخبط دائما ولم تستطع المحافظة على وحدة الشعب. ومن ناحية أخرى، لم تحترم مجالس منظمة التحرير الفلسطينية اللوائح الداخلية للمنظمة.

المجلس الوطني الفلسطيني لا يحترم هذه اللوائح والضوابط والنظام الداخلي، وهو نفسه الذي أقدم على جريمة كبرى عندما انصاع لمطالب إسرائيل وأميركا في نسف الميثاق الوطني الفلسطيني.

اللجنة التنفيذية تخالف أيضا نظامها الداخلي، وكذلك المجلس المركزي. كيف لمنظمة كهذه أن تكون مرجعية. المنظمة تشكل مرجعية عندما تحترم نفسها، وعندما تلتزم بمواثيقها وعهودها، لكن منظمة التحرير عملت كل ما من شأنه الانتقاص من مكانتها.

وقد ساد على الساحة الفلسطينية مبدأ أن الوحدة الوطنية الفلسطينية فوق كل اعتبار، والمحافظة عليها تشكل أولوية لا يجوز تجاوزها، وإذا كان هناك إجراء يحقق فائدة للشعب الفلسطيني على حساب الوحدة الوطنية، فإن التخلي عن الإجراء لصالح الوحدة هو القرار الصحيح.

الفوائد التي يمكن جنيها من أي إجراء لا يمكن أن تعادل الأضرار التي تلحق بالشعب الفلسطيني نتيجة التفسخ. قيادة منظمة التحرير فاوضت في أوسلو، والذين استلموا المفاوضات كانوا ثلاثة وهم عرفات وعباس وقريع، توصلوا إلى اتفاق مع إسرائيل وأسقطوه على الشعب الفلسطيني دون حساب الأضرار.

لقد تضررت الوحدة الوطنية، وساقتنا المفاوضات إلى الاقتتال والانقسام، لم يحترم القادة أسس الوحدة فذهبت ريح الشعب، وخارت قواه. الآن نحن نبحث عن وحدة ضائعة، وإسرائيل تتفرج سعيدة بغبائنا.

موقفا إسرائيل وأميركا

نددت إسرائيل وأميركا بالاتفاق، وخيرت عباس بين الاتفاق مع حماس والاتفاق مع إسرائيل من أجل السلام، وهو موقف سخيف وغبي. التاريخ يشهد على سعي الأمم نحو الوحدة، وهاتان الدولتان تصران على أن يبقى الشعب الفلسطيني منقسما.

الأمم المحترمة هي التي تؤكد على وحدة الشعوب والأمم، وليست تلك التي تعمل على التفتيت والتمزيق. في موقفها هذا، كشرت الولايات المتحدة عن أنيابها، وأكدت المؤكد وهو أنها معادية للشعب الفلسطيني وتعمل على إنهاكه من أجل إسرائيل.

أما تهديد نتنياهو بوقف المفاوضات، فهو تهديد يشكر عليه ونأمل أن ينفذه. لقد ألحقت المفاوضات أضرارا كبيرة بالشعب الفلسطيني بخاصة في النسيجين الاجتماعي والأخلاقي، وفي مستوى المعنويات والالتزام الوطني، ونتنياهو سيقدم خدمة كبيرة للشعب الفلسطيني إن أدار ظهره نهائيا للمفاوضات. أما بخصوص الأموال، فكل الشكر لإسرائيل وأميركا أن أوقفتا الأموال. لقد ربطت هذه الأموال الشعب الفلسطيني من عنقه ليتم تهديده في كل مرة بقطعها وحرمان أبنائه من الرواتب.

لقد أخطأ الفلسطينيون بل أجرموا عندما قبلوا وضع لقمة خبز أطفالهم بيد عدوهم، ونتنياهو يمكن أن يخلص الشعب من هذه المصيبة.

كان من المفروض عدم التوقيع على اتفاقية باريس الاقتصادية وعدم ربط الفلسطينيين بالنظامين الماليين العالمي والإسرائيلي، فقطع الأموال عن الفلسطينيين سيدفعهم إلى الاعتماد على الذات، وفي ذلك فائدة عظيمة للقضية الفلسطينية والشعب الفلسطيني.

الاتكال على الغير حوّل الشعب إلى جماعات من المتسولين، وحولهم عن الثقافة الوطنية إلى الثقافة الاستهلاكية، ومن المفروض أن يبحث الفلسطينيون عن بدائل، وأن ينصرفوا إلى العمل والإنتاج ووقف استيراد البضائع الأجنبية من أجل تشجيع المنتوج المحلي.

ومن اعتمد على غيره في لقمة خبزه ضاع حقه وشبع ذلا، ومن اعتمد على ساعده وعرقه هابه الأعداء وانكفئوا أمامه.

المصدر: الجزيرة نت