المفاوضات وعفريت المستوطنين
محمد خالد الأزعر
في اللحظة ذاتها التي صادقت فيها حكومة بنيامين نتنياهو
على الإفراج عن عدد من الأسرى والمختطفين الفلسطينيين لأكثر من عقدين، أطلقت هذه
الحكومة العنان لمشروع استيطاني ضخم في الضفة الفلسطينية؛ قوامه أكثر من ألف وحدة
سكنية جديدة. وليس من قبيل المصادفة أو العفوية، أن تتزامن هذه الخطوة تماماً
وبداية جلسات أخرى محاولة أميركية لإعادة إحياء جولات التفاوض على مسار التسوية
الفلسطينية.
الرسالة هنا كما نفهمها، هي أن نتنياهو وبطانته يقصدون
تقديم هدية أو أعطية لقطاعات المستوطنين، علها ترضيهم وتزيح عنهم وساوس الخوف على
مستقبلهم، وتؤكد لهم أنه لا شيء في أجندة التفاهمات الممهدة لهذه الجولة، ولا
الاتفاقات التي قد تنشأ عنها، يشتمل على تجاوزات ضدهم وضد رغباتهم.
نحن على يقين من أن نتنياهو يعرف حجم الاستفزاز أو الغضب
أو الحرج، أو كل هذه الأصداء السلبية ونحوها، التي يثيرها هذا السلوك، لدى المفاوض
الفلسطيني والراعي الأميركي والمراقب الأوروبي والشركاء العرب، وغير هؤلاء من
المعنيين بملف التسوية. لكنه لا يقيم لهذه الردود والتداعيات وزناً يساوي رغبته
في، وتحرقه إلى، استعطاف المستوطنين وتأليف قلوبهم من حوله.
والظاهر أن رئيس الوزراء الإسرائيلي المراوغ، معذور في
هذا التصرف الاستجدائي، فهو يعرف قدر من يغازلهم ويخطب ودهم في موازين العملية
السياسية الداخلية. هو يدرك جيداً المكانة الرفيعة التي أصبحت لقطاع المستوطنين في
هذه العملية، التي راح بعض كبار المفكرين وأصحاب الرأي الإسرائيليين يقارنون بينها
وبين وزن المؤسسة العسكرية التي قامت الدولة على أكتافها.
يقول المؤرخ موشيه تسيمرمان البروفيسور في الجامعة
العبرية "إن الجيش من ناحية والمستوطنين في الضفة الغربية من ناحية أخرى، هما
الجهتان اللتان تسيطران على صناعة القرار في تل أبيب..".
وهو يذهب إلى أن المستوطنين بالذات هم أصحاب التأثير
الأقوى في صناعة الأجيال الأكثر تطرفاً وعنصرية في إسرائيل، قائلاً "إن أولاد
المستوطنين في الضفة مثل الشباب الذين درج الزعيم النازي أدولف هتلر على تربيتهم
أثناء سنوات حكمه في ألمانيا..".
يدرك نتنياهو هذه المعطيات، ويعرف أن قطعان المستوطنين
هم طليعة الظهير الشعبي السياسي، الذي يشتد به أزره ويقوى به عضده في معمعة الحياة
السياسية داخل المؤسسة النيابية وخارجها. فهذه الكتلة التي يراوح قوامها حول نسبة
العشر من عدد اليهود في الدولة، هي الدليل الأكثر تجلياً ووضوحاً على ديمومة
المشروع الصهيوني.
والمتصور أن الإبقاء على خطوط الوصل والتواصل معها، يعني
عنده، وعند أية حكومة إسرائيلية أخرى، الحفاظ على تأييد صفوة من النخب ذات
الفاعلية في مختلف مؤسسات الدولة، كالأحزاب السياسية وجماعات الضغط والمتدينين..
إلى ذلك، يعي نتنياهو أهمية مراعاة خطوط الدعم الممتدة
إلى المستوطنين من التنظيمات اليهودية الناشطة في عوالم الآخرين. ولعل أحدث
النماذج في هذا الخصوص، هو إعلان "مؤسسة الاتحاد الأميركي اليهودي" في
11 أغسطس الجاري، عن رصد 145 مليون دولار لتعزيز تهويد القدس والاستيطان فيها.
وإذا كانت هذه مساهمة منظمة صهيونية واحدة ومخصصة لمدينة
القدس وحدها، فكيف الحال مع 13 مؤسسة مماثلة تجتهد في محاولة تعميد بناء ما يسمى
بالهيكل، على أنقاض المعالم الإسلامية المقدسة في زهرة المدائن؛ لكل منها مصادرها
المالية المفتوحة؟! لا يستطيع نتنياهو.
ولا أضرابه من المسؤولين الإسرائيليين الملتاثين بالحلم
الصهيوني، تجاهل أو إغضاب كتلة تستحوذ على مثل هذه القوة المالية الفائضة، علاوة
على نفوذها الإيديولوجي والسياسي الشعبوي داخل إسرائيل وخارجها.. كتلة بلغ بها
الاعتداد والثقة بالذات، أو لنقل التواقح والاستقواء والعنجهية، أنها راحت تطرق
سبل العنف وتكوين التنظيمات المسلحة، وأشهرها ما يدعى "جباية الثمن"،
الذي يمارس أعمالاً إرهابية متعددة الأشكال، ضد كل من الفلسطينيين في الضفة ومناطق
الـ48،.
ولا يستثني من عنفه دعاة السلام من الإسرائيليين أنفسهم.
وفي أوقات مختلفة من العامين الأخيرين، ترددت أخبار عن تطاول أعضاء من هذا التنظيم
بأعمال عنف ضد وحدات من الجيش والشرطة والإدارة المدنية. وعلى هذا التطور الفارق،
علق قادة إسرائيليون كبار، مثل شيمون بيريز وتسيبي ليفنى، بأنهم "يضعون
أيديهم على قلوبهم تخوفاً من تحول المستوطنين مستقبلاً إلى دولة ثالثة بين النهر
والبحر؛ غير إسرائيل وفلسطين"..
الشاهد أن كتلة المستوطنين تمارس دوراً استثنائياً
وصارماً، بين يدي العوامل الضاغطة على حكومة نتنياهو وطاقمه التفاوضي. وعلى من
يعنيهم تبصر آفاق جولة التفاوض الراهنة، أن يضعوا أعينهم على هذه الكتلة ودورها،
الذي يتضخم وينمو بوتيرة تتجه للخروج عن السيطرة، حتى ليبدو من الصعوبة إعادتها
إلى القمقم.
البيان، دبي