المفاوضات ومسيرة التسوية البائسة
نبيل السهلي
بعد ست جولات مكوكية لوزير الخارجية الأميركي جون
كيري للمنطقة التقى فيها مسؤولين من السلطة الفلسطينية وإسرائيل، تم استئناف المفاوضات
بين الطرفين يوم الاثنين 19 يوليو/تموز2013، لكن اللافت أن وزير الخارجية الأميركي
لم يتحدث عن أي اتفاق حول مرجعيات سياسية تتعلق بالاتكاء على قرارات دولية سابقة، أو
سقف زمني للوصول إلى اتفاقات محددة.
كما لم يتم طرح تجميد الاستيطان كشرط فلسطيني لانطلاق
المفاوضات.
ويذكر أن المفاوضات بين الأطراف العربية وإسرائيل
-والتي انطلقت في العاصمة الإسبانية مدريد في نهاية شهر نوفمبر/تشرين الثاني من عام
1991- لم تفض إلى دولة فلسطينية بالمعنى السيادي، بل تم إنشاء سلطة فلسطينية منزوعة
السيادة في ربيع عام 1994، وبقيت المعابر ومفاتيح الاقتصاد الفلسطيني بيد الاحتلال
الإسرائيلي، ناهيك عن النشاط الاستيطاني الذي لم يتوقف ولو للحظة واحدة وخاصة في مدينة
القدس.
والحصيلة أنه بعد مرور اثنين وعشرين عاماً على بدء
المفاوضات، ونحو عشرين عاماً على اتفاقات أوسلو، كان الحصاد المر للفلسطينيين سيد الموقف.
-موقف السلطة الفلسطينية
بالنسبة للموقف الفلسطيني من مبدأ التفاوض، قالت
أوساط سياسية فلسطينية إن العرض الذي قدمه وزير الخارجية الأميركي جون كيري قبل انطلاقة
المفاوضات -وأبلغه الرئيس الفلسطيني محمود عباس بدوره لأعضاء اللجنتين التنفيذية لمنظمة
التحرير الفلسطينية، والمركزية لحركة فتح في اجتماعين متتاليين، وثالث مشترك بينهما-
كان "منزوع الدسم"، وجميع عناصره لا جديد فيها، وهي تمثل الموقف الأميركي
المعلن والمعروف بالنسبة للفلسطينيين، أي الانحياز المطلق للموقف الإسرائيلي.
وألمحت تلك المصادر إلى أن الثغرة الأساسية في هذا
العرض -إضافة إلى ثغرات أخرى- أنه لم يحظ بموافقة رئيس الحكومة الإسرائيلي بنيامين
نتنياهو.
وأضافت المصادر أن الاقتراح الأميركي أقرب إلى ورقة
ضمانات فحسب، طالما لم يحظ بموافقة نتنياهو، وينتمي إلى ذات المواقف الأميركية التي
سبق أن عرضت على الرئيس عباس، و تنص على دعوة الجانبين إلى المفاوضات على أساس حل الدولتين
على أساس حدود الرابع من يونيو/حزيران، مع تبادل لأراض متساوية القيمة والمثل.
كما تتحدث عن وقف للاستيطان بشكل عام، أي أنها لا
تتطرق إلى القرارات الاستيطانية التي اتخذت والتي تتضمن بناء آلاف الوحدات الاستيطانية،
كما أنها تتجاهل المشاريع الاستيطانية قيد التنفيذ، وهي الأخرى بالآلاف، ناهيك عن مصادرة
الأراضي وهدم بيوت الفلسطينيين في مدينة القدس ومناطق (ج) من الضفة الغربية الخاضعة
لسيطرة الاحتلال الإسرائيلي بالكامل.
كما أن الدعوة لا تتضمن إشارات إلى مرجعية للقرارات
الدولية حول بطلان الاستيطان وكذلك التغييرات الديمغرافية التي قامت بها إسرائيل وخاصة
في مدينة القدس.
وحول قضية الإفراج عن الأسرى، اقترح وزير الخارجية
الأميركي جون كيري في خطته الإفراج عن 250 من الأسرى الأمنيين، أي من ذوي الأحكام الصغيرة.
وقد سبق لإسرائيل أن أفرجت عن الكثير منهم فيما
يسمى مقدمات حسن نية، وكان جلهم ممن أنهوا أحكامهم أو قاربت الانتهاء.
أما بخصوص أسرى ما قبل اتفاق أوسلو وعددهم 104،
فتضمنت خطة كيري الإفراج عنهم على دفعات تبدأ بعد شهر من انطلاق المفاوضات المحتملة.
وقد تبلور موقف حركة فتح من اقتراح كيري، فتجنبت
مركزية فتح الموافقة أو الرفض صراحة على الخطة، واكتفت -بحسب مصادر فلسطينية- بالتأكيد
على ترحيبها باستئناف المفاوضات على أساس حدود الرابع من يونيو/حزيران من عام 1967.
وأشارت المصادر إلى أن معظم الفصائل الفلسطينية
سجلت تحفظات مهمة على خطة كيري، إلا أنها تستشعر خطر الرفض الصريح لها، لذلك فقد توافقت
على صياغة رد يتسم بالإيجابية يجدد المطالب الفلسطينية، دون إعلان صريح برفض أو قبول
الخطة منعاً لأي تداعيات.
أما موقف حركة حماس فكان الرفض لاستئناف المفاوضات.
واللافت أن الطرف الفلسطيني لا يحوز أوراق قوة حقيقية
لمواجهة خصمه الإسرائيلي في المفاوضات المحتملة، حيث ماتزال حالة الانقسام سيدة المشهد
الفلسطيني، ناهيك عن غياب المرجعيات الدولية للمفاوضات المحتملة، والسقف الزمني الحقيقي
لتلك المفاوضات، وهذا هو الأهم بعد تجربة امتدت لأكثر من عشرين عاماً من المفاوضات
البائسة.
ومع انطلاق المفاوضات تبرز أسئلة عديدة حول جدواها،
في ظل عدم استئثار المفاوض الفلسطيني بأية أوراق قوة تدعمه في التفاوض، وتراجعه عن
شرط تجميد الاستيطان.
-المواقف الإسرائيلية
وحول المواقف الإسرائيلية من عملية التفاوض، نفى
مارك ريغف الناطق باسم رئيس الوزراء الإسرائيلي في البداية أنباء صحفية نقلت عن مسؤول
إسرائيلي رفيع قوله إن إسرائيل وافقت على استئناف المفاوضات على أساس حدود الرابع من
يونيو/حزيران، وعلى تبادل الأراضي.
وقال ريغف -وفقاً لما نقله موقع القناة العاشرة
الإلكتروني- إن "تقرير وكالة رويترز غير صحيح، وإن إسرائيل لم توافق على استئناف
المفاوضات على أساس حدود 1967".
وكان مسؤول إسرائيلي قال لـ"رويترز" إنه
إذا قبل الفلسطينيون هذه الصيغة، فإن وزير الخارجية الأميركي جون كيري قد يعلن استئناف
محادثات السلام، وسيوضح كيري أيضا تفاصيل قيام دولة فلسطينية إلى جانب إسرائيل
"كدولة يهودية"، أي أن الإسرائيليين يسعون إلى اقتناص موافقة فلسطينية لفكرة
يهودية الدولة، لشطب حق العودة الخاص باللاجئين الفلسطينيين.
ورداً على سؤال بشأن تقرير "رويترز" الأول
الذي أفاد بموافقة إسرائيل على صيغة 1967، قال مسؤول أميركي: "هناك الكثير من
المعلومات غير الدقيقة حاليا، وتركيزنا ينصب على استمرار العمل على التفاصيل مع الطرفين".
ومن جهته، أكد وزير الشؤون الإستراتيجية والمخابرات
الإسرائيلي يوفال شتاينس أن نتائج إعلان وزير الخارجية الأميركي جون كيري عن التوصل
لاتفاق على انطلاقة المفاوضات يتضمن الإفراج عن الأسرى القدامى الذين كانت إسرائيل
ترفض الإفراج عنهم تحت عنوان أن أيديهم ملطخة بالدماء، والذين أمضوا فترات طويلة في
السجون الإسرائيلية.
وقال الوزير الإسرائيلي إن ما يشاع عن تجميد إسرائيلي
للاستيطان ليس على جدول أعمال الحكومة الإسرائيلية، كما أن الفلسطينيين التزموا بعدم
التوجه إلى مؤسسات المنظمة الدولية لمواجهة إسرائيل.
كما أكد شتاينس أن الاتفاق على العملية التفاوضية
لا يعد ولا يشكل انتهاكا للمبادئ الإسرائيلية التي حددها رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين
نتنياهو للتفاوض، مؤكدا أن خيار تجميد الاستيطان ليس واردا وليس خيارا، كما أن إسرائيل
لم تلتزم بموضوع حدود الرابع من يونيو/حزيران كأساس للمفاوضات.
وأشار شتاينس إلى أن الفلسطينيين أكدوا التزامهم
بإجراء مفاوضات جادة لمدة تسعة أشهر على الأقل، وأنهم لن يعملوا على الساحة الدولية
ضد إسرائيل نهائيا خلال هذه الفترة.
وقال شتاينس إن رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس
حريص على تجديد المحادثات، مضيفا أن تصرفات عباس الأخيرة تثير الشكوك في الهدف الذي
يسعى إليه، هذا بالإضافة إلى أن هناك شكوكا حول ما إذا كان قادرا على توقيع اتفاق يقدم
فيه تنازلات حقيقية.
ومن ناحيته، قبل رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين
نتنياهو اقتراح وزير الخارجية الأميركي جون كيري باستئناف المفاوضات مع السلطة الفلسطينية،
باعتبارها أمرا حيوياً لمصلحة إسرائيل الإستراتيجية، نظرا لأنها تحول دون إقامة دولة
ثنائية القومية.
-خيار الدولة الثنائية القومية
مع انطلاق المفاوضات بين السلطة الفلسطينية وإسرائيل
يوم الاثنين 19 يوليو/تموز2013 في واشنطن، برزت إلى الواجهة تساؤلات متشعبة حول قضايا
الوضع النهائي، وهي في مجملها قضايا جوهرية وحساسة. فضلاً عن ذلك ثمة شكوك لدى المتابعين
حول إمكانية أن تفضي تلك المفاوضات إلى دولة فلسطينية بالمعنى السيادي، في وقت تسعى
فيه المؤسسة الإسرائيلية إلى ترسيخ فكرة يهودية الدولة على الأرض، عبر تهويد المعالم
الجغرافية العربية، والسيطرة المباشرة على أراضي الفلسطينيين.
وتبعا لذلك بات من الضروري جداً البحث عن خيارات
أخرى يتبناها الفلسطينيون في أدائهم السياسي، أقلها خيار دولة "ثنائية القومية"
وهذا أضعف الإيمان في ظل المتغيرات التي تشهدها المنطقة العربية.
وفي هذا السياق يعتبر المفكر العربي الدكتور عزمي
بشارة من أوائل من طرحوا فكرة الدولة الثنائية القومية، وتعني "دولة لجميع مواطنيها".
وتتضمن تلك الفكرة تحويل إسرائيل إلى دولة لكل المواطنين
العرب واليهود، بغض النظر عن الدين، أي دولة ديمقراطية علمانية.
وقد رأى المفكر العربي طرح فكرة دولة ثنائية القومية
على كامل الوطن الفلسطيني بمساحته البالغة 27009 كيلومترات مربعة، رداً على الحل الإسرائيلي
القائم على الانفصال، معتبراً في ذات الوقت أن حل الانفصال في دولتين لن يلبي الحقوق
الفلسطينية، حيث سيتبع إقامة دولة فلسطينية في الضفة الغربية وقطاع غزة تقسيم للشعب
الفلسطيني، كما أن حل الدولتين لن يتبعه تطبيق لحق العودة للاجئين الفلسطينيين (ستة
ملايين لاجئ) وفق القرار194 الصادر عن الجمعية العامة للأمم المتحدة في عام 1948.
ولأن الدولة الفلسطينية المفترضة لن تكون كاملة
السيادة، وربما لن تكون قابلة للحياة على ضوء الإجراءات والأعمال الإسرائيلية في الضفة
الغربية من استيطان وبناء للجدار، فإن هذا الواقع سيؤدّي إلى قيام نظام الفصل العنصري
"الأبارتهايد".
وبذلك يعتبر المفكر العربي الدكتور عزمي ممن طرحوا
وبجرأة مشروعا سياسيا تجديديا، بغية تحرير العقلية الإسرائيلية من عنصريتها وعنجهيتها،
وبالتالي تعتبر فكرة دولة ثنائية القومية هجوما سياسيا على الداخل الإسرائيلي بكل مركباته
وعناصره.
ويمكن إعادة الاعتبار لتنشيط تلك الفكرة وتعميمها
بعد أكثر من عقدين من مسيرة التسوية البائسة.
الجزيرة نت، الدوحة