الموظفون في الوطن
بقلم: عمر قاروط
بعد غياب نحو شهرين أعود للكتابة وسط
ضبابية إزاء العناوين التي تستحق، وقبل أن أمضي في الكتابة تحت عنوان اليوم (الموظفون
في الوطن) استعرضت عددًا من العناوين التي كتبت تحتها خلال الشهور الأخيرة، فوجدت كأن
عجلة الحياة متوقفة، فمن أجواء التوتر مع الاحتلال التي تثير التساؤلات عن احتمالات
شن الحرب من جديد على غزة، إلى تصاعد حدة الحصار على قطاع غزة، خصوصًا مع استمرار إغلاق
معبر رفح البري منذ مطلع العام، إلى أزمة حكومة التوافق واستمرار توقف قطار المصالحة،
إلى الاستيطان والاعتداءات المتواصلة على المسجد الأقصى والقدس إلى غير ذلك، وسط كل
هذا وذاك استوقفتني مأساة الوطن الكبيرة التي صنعها رجالاته من الساسة والفصائل والسلطة
والحكومة، ألا وهي مأساة الموظفين في قطاع غزة.
هؤلاء الذين باتوا ضحايا الحكومة والسلطة
والفصائل والاحتلال على حد سواء، لا يعرفون من هو غريمهم، ولا من هو كفيلهم، يستظلون
بالشمس، ويناجون الصم البكم العمي، عندها تذكرت فيلم فريد شوقي الذي عرض قبل أكثر من
أربعين سنة تقريبًا بعنوان: "الموظفون في الأرض"، وكيف أن الدولة تدفع الموظف
الكفء والنزيه والمستقيم إلى الانحراف أو الذل لعجزه عن توفير احتياجاته الأساسية،
التي تستر زمانه، وتعيل أسرته، وتحفظ كرامته، إنها لعبة الساسة في السيطرة على العامة،
الذين يعتقدون أن الوطن للجميع، وأن الحقوق والواجبات مسئولية مشتركة بين كل أبناء
الوطن الواحد.
يعتقد الموظف _أيًّا كان انتماؤه السياسي
أو ميوله_ أنه عليه أن يلتزم بالقانون، وأداء واجبه في الوظيفة العامة في خدمة أبناء
شعبه ووطنه؛ كونه خلق مواطنًا في هذا الوطن، وهو قدر لا خيار له فيه، لكنه يرضى به،
ويدين له بالانتماء والولاء، لكن السياسي والفصائلي والحكومة يرون غير ذلك، وهنا تبدأ
الأزمة.
فهذا الموظف، فصائلي، وهذا أمني، وهذا
توافقي، وهذا رام الله، وذاك غزة، وهذا سلطة قديمة وذاك حكومة توافق، وهذا من 2005م،
وذاك مقطوع راتبه، وهذا مجمد وذاك محروم من العلاوات والترقيات، وهذا ... وذاك ...،
تصنيفات يصعب حصرها أو الوقوف على كنهها.
وهنا لك أن تدرك أنه لا أحد يعرف كم عدد
الموظفين في الوطن، وما هو الكادر الذي يحكمهم، وكم عدد من لهم الحق في الوظيفة العمومية،
وكم عدد الذين سرق حقهم في الوظيفة العمومية، وكيف للمواطن في غزة الباحث عن عمل أن
يجد فرصة عمل، ولمن يذهب، وما هي المعايير التي يحتكم لها.
لك أن تعرف أن الموظف في الوطن فلسطين
بلا عنوان، وبلا هوية، وبلا انتماء، لماذا؟، لأنهم يرفضون أن يعترفوا بأن فلسطين له
وطن، وأن الفلسطينيين له شعب، وأن له حقًّا مشروعًا في الوظيفة العامة، أو المصلحة
العامة، إن الموظف في وطن فلسطين كائن من المخلوقات غير البشرية، وغير الإنسانية، عليه
أن ينتظر ويترقب، عليه أن يصمد ولا يتكلم، عليه أن يعطي ولا يطلب، عليه أن يعمل ولا
يتأفف، عليه أن يخدم مخلوقات بشرية في الدنيا ويحتسب أجره عند مخلوقات ربانية لا يعلمها
"الملائكة"، ويرجو من الله لا من مستخدمه، ويتمنى على السماء لا على الأرض.
الموظف في الوطن فلسطين محروم من كل شيء،
وكلٌّ يريد منه كل شيء، إنها معضلة وطن اسمه فلسطين، ومعضلة مواطن اسمه فلسطيني.
صحيح أن أغلب موظفي غزة من الشباب، الذين
تنحصر احتياجاتهم في أجور مساكنهم، وطعامهم وشرابهم وملابسهم، لكنهم بشر، يفكر ويحلم
ويتمنى ويرغب ويتطلع ويرجو.
ألم يئن الأوان أن نعفيهم من مهاتراتنا
السياسية، وأن نعدهم مخلوقات بشرية، وكائنات حية، ومولودين في هذا الوطن قدرًا لا اختيارًا،
ويدينون وينتمون اعتقاديًّا لوطنهم وشعبهم، كفى امتهانًا لموظفنا، وكفى تلاعبًا بإنسانيته
وحقوقه، ونعزه باسم شعبه ووطنه، ولا ندفعه إلى ما يكسر كرامته، ويحفظ له قدره.
المصدر: فلسطين أون لاين