د. باسم نعيم
في هذا الشهر، أحيا الفلسطينيون وأنصارهم
حول العالم ذكرى النكبة الـ75، وكلمة النكبة هي كلمة عربية تعني الكارثة، ولأول مرة
منذ وقوعها، تشارك الأمم المتحدة في إحياء هذه الذكرى الأليمة.
النكبة ليست حدثًا تاريخيا عابرا ولكنها
كارثة حلت بالشعب الفلسطيني، استمرت أحداثها نحو سنتين، من منتصف عام 1947 وحتى منتصف
عام 1949، حقبة زمنية امتلأت بالرعب والوحشية والإرهاب، تحطم فيها وطن مزدهر وتشرد
فيها شعب في المنافي والشتات وتبخر حلم، بل تحول إلى كابوس جاثم على صدر الفلسطينيين
حتى تاريخه.
يؤكد المؤرخون، بمن فيهم إسرائيليون، أن
كل الأهوال التي مر بها شعبنا الفلسطيني في تلك الفترة كانت جزءًا من مخطط متعمد من
القيادة العليا للحركة الصهيونية، كشرط لتهيئة الميدان للإعلان عن نشأة دولة "إسرائيل”.
في تلك الفترة، تم تدمير أكثر من 530 قرية
فلسطينية والسيطرة على أكثر من 700 قرية ومدينة، وتهجير أكثر من 750 ألف فلسطيني (نحو
50% من الفلسطينيين الذين كانوا يقيمون في فلسطين التاريخية)، بكل صنوف الوحشية والإرهاب
المنظم، مثل قتل الأبرياء وبقْر بطون الحوامل وحرق البيوت وتدمير المزارع وآبار المياه.
ولكن قبل أن نمضي للإجابة عن السؤال الأول
حول النكبة وتداعياتها ومآلاتها، لا بد أن نتوقف قليلا عند فلسطين ما قبل النكبة، فلسطين
الشعب والحياة والفن والمدنية والتراث. البعض للأسف قَبِل الرواية الصهيونية عن فلسطين
قبل النكبة من دون أي تمحيص، ومنهم رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون ديرلاين،
في كلمتها بمناسبة قيام دولة "إسرائيل”، رغم أنها ألمانية الجنسية، ويفترض أن تكون
حساسيتها عالية لاضطهاد شعب لشعب آخر، وألا تُحمّل الآخرين مسؤولية جرائم ارتكبها بلدها
في يوم ما.
روّج الصهاينة، منذ احتلالهم فلسطين وإقامة
دولة "إسرائيل”، أن فلسطين كانت صحراء خالية من السكان، وأنه بفضل جهودهم تحولت إلى
فردوس الشرق الأوسط، وأقاموا فيها نظامًا سياسيًا يتبنى قيم الحرية والديمقراطية والدفاع
عن حقوق الإنسان.
ولكن هذه الرواية الكاذبة لا تصمد أمام
أبسط حقائق التاريخ، التي يعرفها كثيرون ممن عاشوا في فلسطين قبل النكبة ولا يزالون
على قيد الحياة، والتي تؤكد أن فلسطين قبل احتلالها من الصهاينة كانت بلدًا ينبض بالحياة
ومفعمًا بالازدهار في كل المجالات، التعليم والصحة والزراعة والصناعة والسياحة والرياضة،
ودعونا نذكر بعض الأمثلة على ذلك:
حيفا ويافا كانتا من أكبر وأشهر موانئ المنطقة،
وتنافس الموانئ العالمية حينذاك من حيث المدنية والحركة التجارية، بل إن حيفا كانت
فيها مصفاة ضخمة للبترول.
تأسس في القدس البنك العربي عام 1930، وبعد
80 عامًا بات البنك أكبر مؤسسة مصرفية في العالم العربي، ومن أكبر المؤسسات المصرفية
حول العالم.
عدّد الباحثون بين 45 إلى 50 صحيفة فلسطينية
كانت تصدر قبل النكبة، إضافة إلى المجلات المتخصصة في الزراعة والهندسة والصناعة وغيرها،
فضلا عن أن الفلسطينيين شغلوا ثاني إذاعة على مستوى الوطن العربي بعد الإذاعة المصرية،
وكانت تبث من مدينة القدس.
أسس الفلسطينيون عديدا من المسارح ودور
السينما في المدن الفلسطينية المختلفة، خاصة في القدس ويافا وحيفا، لتحتضن الأنشطة
الثقافية والأدبية والفنية المختلفة، ومن أشهرها مسرح وسينما الحمراء في القدس.
عام 1929، حصل فريق كرة القدم الفلسطيني
على عضوية الاتحاد الدولي لكرة القدم (الفيفا)، وكان من أوائل الفرق في المنطقة، وشارك
الفريق في نهائيات كأس العالم في إيطاليا عام 1934.
أُسست أول جمعية نسائية في فلسطين عام
1903، في عكا، وكانت برئاسة السيدة نبيهة المنسي. وأُقيمَ أول اتحاد نسائي فلسطيني
عام 1921، بدعم كل من السيدة إميليا السكاكيني وزليخة الشهابي، كما تأسست عام 1924
"جمعية النهضة النسائية” في مدينة رام الله، حيث كانت المرأة الفلسطينية ناشطة في كل
المجالات السياسية والثقافية والمجتمعية.
منذ ثلاثينيات القرن الماضي، أرسل الفلسطينيون
مئات المدرسين والأطباء والممرضين إلى الدول الناشئة في منطقة الخليج وساهموا في بناء
هذه الدول في مجالات عديدة. أول سفير للمملكة العربية السعودية في الأمم المتحدة السيد
أحمد الشقيري كان فلسطينيا، وأسهموا في تأسيس عديد من الصحف والإذاعات العربية بعد
تهجيرهم من وطنهم.
في مجال الزراعة، كانت فلسطين تُصدر كثيرا
من المحاصيل مثل القمح والزيتون والبرتقال والموز والبطيخ، وكانت معظم الأراضي الزراعية
(95-99%) يديرها المزارعون الفلسطينيون.
هذه بعض الأمثلة فقط على حيوية وازدهار
الحياة في فلسطين قبل النكبة، وللعلم فقط، فقد سيطر اليهود بالقوة عام 1948 على نحو
78% من أراضي فلسطين التاريخية، وأنشؤوا دولتهم على هذه المساحة، وحتى احتلال فلسطين
عام 1967 بقي نشاط الدولة محصورا في الجزء الذي كانت فيه المدن الفلسطينية التاريخية،
حيفا ويافا وبئر السبع والرملة واللد وأسدود والمجدل والناصرة، وكل المدن الجديدة التي
أنشؤوها بعد قيام الدولة كانت على أطراف المدن الفلسطينية التاريخية أو توسعة لبعض
أحيائها، كما هي الحال في (تل أبيب) ونتانيا وغيرها، وتركز وجودهم في منطقة الساحل
والوسط، وهذه لا تزيد مساحتها على 20% من المساحة الإجمالية تحت سيطرتهم، أما ما تبقى
من الأراضي الفلسطينية المحتلة، وتشمل صحراء النقب ومناطق الجليل في الشمال، فبقي الوجود
والفعل اليهودي فيها ضعيفا ولا يكاد يذكر حتى اللحظة، ولهذا وضعت الحكومة الإسرائيلية
اليمينية المتطرفة الحالية خططا إستراتيجية لإعمار وإحياء هذه المناطق في النقب والجليل.
ولعل في ما سبق نفيًا علميا موضوعيا بالحقائق
والأرقام لما تروجه الروايات الصهيونية عن فلسطين قبل النكبة وبعدها وعن دورهم في إعمارها.
عودة إلى السؤال الأصلي، ماذا تعني النكبة
للفلسطينيين؟ كثيرون يعتقدون أن النكبة حقبة تاريخية قصيرة مر بها الشعب الفلسطيني
إبان قيام دولة "إسرائيل”، مليئة بالألم والمعاناة والوحشية والتشرد. ولكن الحقيقة
غير ذلك تمامًا، فالحقيقة هي أن النكبة، بكل ما تحمل من معاني الكارثية والوحشية والمعاناة
والعنصرية، لا تزال مستمرة حتى اليوم، بل وبشكل منهجي أعمق.
منذ النكبة عام 1948، وضعت القيادة الصهيونية
خطة للسيطرة والتحكم في الشعب الفلسطيني وإحباط قدرته على الثورة والرفض، وتدمير أي
فرصة للحلم بمستقبل أفضل مبني على الحرية والاستقلال والكرامة والعودة لدياره التي
هُجِّر منها بالقوة.
أولى هذه الخطوات كانت تقسيم الشعب الفلسطيني
المتبقي داخل فلسطين التاريخية إلى معازل مفصولة تماما عن بعضها بعضا وتخضع لقوانين
مختلفة، وتختلف تماما عن السكان اليهود في المناطق نفسها، وهو ما انتهينا إليه اليوم
بواقع دولة الفصل العنصري، التي أثبتتها كثير من المؤسسات الدولية الحقوقية مثل هيومن
رايتس ووتش وأمنستي إنترناشيونال، حتى مؤسسة بيتسيلم الإسرائيلية.
أكثر من مليون فلسطيني تعرض للاعتقال والتعذيب
والحرمان منذ احتلال عام 1967، بمن فيهم آلاف الأطفال والنساء والمرضى وكبار السن.
آلاف البيوت والمؤسسات تم هدمها خارج القانون، آلاف الدونمات سُرقت من أصحابها الأصليين
ومنحت لعتاة المستوطنين لبناء بؤر استيطانية جديدة. مئات الآلاف من الأشجار -خاصة الزيتون-
تم قطعها أو تدميرها أو حرقها، الثروات الطبيعية وخاصة المياه، الشحيحة أصلًا، سُرقت.
الآن، أكثر من 76% من مساحة الضفة الغربية
تحت السيطرة الإسرائيلية الكاملة، وهو ما يعني الحرمان من حرية الحركة وخطر التنقل
وتدمير الاقتصاد المحلي لصعوبة الاستيراد والتصدير، إضافة إلى الاقتحامات اليومية داخل
المدن والقرى الفلسطينية وترويع الآمنين.
قطاع غزة، الشريط الساحلي الضيق (365 كيلومترا
مربعا)، منذ أكثر من 17 عاما تحت حصار إسرائيلي خانق، مما حوّل القطاع وسكانه 2.3 مليون
نسمة، 60% منهم أطفال، إلى أكبر سجن مفتوح أو كما يسميه البعض معسكر اعتقال جديدا.
والأخطر من ذلك كله، أن 7 ملايين فلسطيني
في الشتات يعانون الحرمان من أبسط الحقوق الأساسية ويتعرضون بشكل متكرر لموجات من الاضطهاد
والملاحقة في الدول المختلفة، يحرمون من حقهم الطبيعي في العودة لديارهم التي هُجّروا
منها بالقوة، كما حدث مع كثير من الشعوب التي تركت بلادها في فترات الحرب والأزمات.
هذا الوضع غير قابل للاستمرار، ومن دون
حصول الفلسطينيين على حقوقهم السياسية والمدنية، بالحرية والاستقلال وحق تقرير المصير
والعودة، لن يتوفر أي أمن أو استقرار لأحد، هنا وفي الإقليم وكذلك على المستوى الدولي،
لأن قضية فلسطين هي القضية المركزية لكل الشعوب العربية والإسلامية، إلى جانب شعبنا
الفلسطيني.
المجتمع الدولي الذي خلق هذا المشكلة يجب
أن يتحمل مسؤولياته الكاملة والفاعلة في حل الصراع، وإلى حين ذلك، تأمين الحياة الكريمة
والآمنة للفلسطينيين. فلم تعد تكفي بعض البيانات والتصريحات التضامنية من دون اتخاذ
خطوات عملية لوقف العدوان وإنهاء الصراع ومحاسبة مجرمي الحرب.
قرار الأمم المتحدة -لأول مرة- بإحياء ذكرى
النكبة خطوة في الاتجاه الصحيح، ولكنها غير كافية لوضع حد لهذه الكارثة وحل الصراع
بما يحقق العدل والسلم والأمن للجميع.
المصدر: الجزيرة