اليرموك .. جرح مازال ينزف!
بقلم: أمين أبو راشد
يُقال إن النجاح لا يتحقق إلا بالإصرار، وعدم
الاستسلام للفشل أو اليأس والإحباط. كلمات جميلة منمقة، لكن أن تعيشه واقعًا
وتتلمسه على وجوه من يواجهون الموت حقًا بإصرارهم على الحياة، هو الشعور الحقيقي
بالنجاح.
أتذكر في أول مرة عزمنا فيها في حملة الوفاء
الأوروبية أن ندخل إلى الأراضي السورية رغم تصاعد حدة المعارك، لم يتصل بي أحد إلا
وطلب منعي التريث وآخرون حذرونا من الذهاب خوفًا على حياتنا. لكن الهدف الذي كان
نصب أعيننا مد يد العون والمساعدة لأهلنا في المخيمات الفلسطينية، في ظل اشتداد
أوضاعهم المعيشية سوءًا وعوزًا، وكنا نشعر أن هذا الهدف هو غاية يجب تحقيقه بأي
ثمن.
رغم مناداة الجميع تحييد الفلسطينيين ومخيماتهم
من الصراع المتواصل في سورية منذ أكثر من ثلاث سنوات؛ إلا أن الملف الفلسطيني دخل
في أتون الازمة، وأصبحت معظم المخيمات محاور تماس وساحات للمعارك وأصبح الفلسطيني
يدفع ثمن هذه الأزمة من دمه ودم أبناءه قتلاً واعتقلاً وخطفًا وتهجيرًا وتشردًا
وتفتتًا للعائلات.
منذ ذلك الحين؛ أصبحنا في حملة
"الوفاء" نلمس واقعًا كيف يتم استخدم الملف الفلسطيني في أبشع صورة. ما
جعل مخيم اليرموك يدفع الفاتورة الأكبر من دم ساكنيه اللاجئين .. فالقتل لم يتوقف
والجوع أصبح أداة قتل أشد وقعًا من القذائف. وبقيت كرامة يتشبث اللاجئون بها، وإن
كان ثمنها حياتهم .. نتحدث هنا عن عاصمة الشتات الفلسطيني، كما يسميه البعض، وخزان
المقاومة كما يحلو للآخرين أن يطلق عليه.
لم يُعرف في التاريخ الفلسطيني مصطلح "الموت
جوعًا"، فالذي رافق "النكبة" هو مصطلحات القتل والقصف والاغتيال
والاعتقال، أما الموت جوعاً كما يحصل في مخيم اليرموك لم نعرفه ولم نتصور اننا
سنعيش يومًا نكون شاهدين على هذا النوع من القتل البطيء. إن الذي يموت جوعاً في
سوريا هم سكان مخيم اليرموك وليس سواهم رغم معاناة الكثيرين في مناطق أخرى.
ليس أقل ما يوصف ما شاهدناه في مخيم اليرموك
بأنه "مأساة القرن"، هي كارثة كبرى بكل ما للكلمة من معنى، صدمنا مشهد
الأهالي وهم يخرجون لاستلام المساعدات، كأنهم يخرجون من القبور وجوههم شاحبة
عيونهم غائرة أجسامهم كالاشباح، بيننا وبين موتهم حبة تمر أو شربة ماء".
اخترنا أن نعايش ونساعد ونخفف من وطأة ما يعيشه
اللاجئون، اخترنا الذكرى السادسة والستين لنكبة الشعب الفلسطيني الخامس عشر من
(أيار/ مايو) لتدخل قافلتنا التاسعة لمخيم اليرموك، كي تلامس هموم اللاجئين في هذه
الذكرى التي يعيشون أصعب منها.
تحرك العالم نصرة لليرموك ولمأساته، وسمعنا
التضامن والتفاعل، ومنذ عشرة أشهر ما زال المخيم ينزف ويئن، فالموت جوعاً لم يتوقف
حتى الآن، وإن ساهمت بعض المساعدات التي أُدخلت إلى المخيم في التقليل منها.
قد يلتمس البعض عذرًا لنفسه أنه لا يستطيع
الوصول إلى الذين يعانون في مخيم اليرموك للاجئين الفلسطينيين، بسبب ما تشهده
الأوضع الأمنية المتدهورة في الأراضي السورية؛ لكن ما قامت به حملت الوفاء
الأوروبية لعون منكوبي سورية، بقوافلهاالتسعة، وتمكنها من الدخول إلى المخيم،
والوصول أيضًا إلى مخيمات في درعا واللاذقية رغم الأوضاع الأمنية الصعبة، كما حدث
في القافلة الأخيرة؛ نزع عذر العاجز عن تقديم الدعم من أجل أن يتم إيصال المساعدات
لمحتاجينها.
الباب مازال مفتوحًا؛ فنحن نستعد للتحضير لقافلة
شهر رمضان المبارك؛ وكم سيكون وقعها كبيرًا، أملنا كبير أن تكون هذه القافلة
مختلفة عن القوافل التسع التي قامت الحملة بتوزيعها، نريد قافلة تسد رمق اللاجئين
في هذا الشهر الفضيل، نريد قوافل لرمضان وليس قافلة واحدة.
ومما استوقفني في زيارتي الأخيرة لمخيم اليرموك،
وبينما كنت أتابع توزيع المساعدات في شارع اليرموك - وقلبي يعتصر ألمًا وحزنًا على
ما آلت إليه الأوضاع في المخيم، حيث الدمار في كل مكان ورائحة الموت تملأ الأرجاء
- وأنا أرقب عملية التوزيع في ظروف صعبة ومعقدة وخاصة بعد تدهور الأوضاع الأمنية
وتوقف التوزيع واستئنافه بعد دخول القافلة التاسعة لحملة الوفاء؛ وإذ بامرأة كبيرة
في السن تنادي من بعيد "أريد أبو راشد!"، وكانت تُمنع من الوصول لنا، لا
سيما أننا كنا في منطقة تماس وهناك محاذير شديدة للتنقل بين هذه المناطق. المرأة
كانت كبيرة في السن ولديها إصرار شديد لمقابلتي. سُمح لها بتجاوز المنطقة، ووصلت
لنا. حيتنا الجدة الفلسطينية "أم محمد" وهي مهجرة من مدينتها يافا،
وقالت "أنا لا اريد شيء؛ أحببت فقط أن أشكرك وأشكر حملة الوفاء على وقوفها
معنا".
وأعطتني رسالة خاصة، وقمت بقراءتها أمام الناس،
لا سيما لحساسية الوضع والجميع يرقب وقد تفسر بعدة تفسيرات. أبكتني هذه الرسالة
وهزتني من أعماقي. رسالة شكر اعتز بها وأعتز بأهلي وشعبي، وكما نقول دائمًا؛ فإننا
مستعدون أن نفديهم بحياتينا، فهم رصيدنا ومن أجلهم نعمل ولأجلهم نضحي حتى نعود
لفلسطين الحبيبة.