اليرموك
في ذكرى الضياع
بقلم:
أمين إبراهيم
ها
هي الأيام تطير بنا بسرعة كبيرة كلمح البصر حتى أصبحنا لا نميز بين أيامنا
وتواريخها، أيام مضت وأيام تأتي ولا جديد يذكر، سوى تغير اليوم وتاريخ أشهر السنة.
ثلاث
سنوات من عمرنا مضت وكأنها يوم واحد في ظاهرها ولكن في باطنها تحمل أنيناً ووجعاً
كبيراً، كل شيء اختلف الأماكن الوجوه حتى
نحن أنفسنا تغيرنا أصبحنا نصطنع ضحكاتنا ونتظاهر بالسعادة لنكمل حياتنا بعدما
فارقنا قطعة من أرواحنا فقدنا وطن وحضن أم حنون.
قبل
ثلاث سنوات كنا نعيش في بقعة جغرافية اسمها مخيم اليرموك ذلك المكان الواقع في
الخاصرة الجنوبية لعاصمة الياسمين دمشق، كان ذاك المخيم بمثابة الوطن للاجئين
الفلسطينيين القاطنين فيه فهو المكان الذي لجئ اليه آباؤهم بعد لجوئهم من فلسطين
عام 1948 بسنوات قليلة، ففيه ولد معظمهم ،لذلك هو يعني لهم الكثير فهو الأم الحنون
التي احتضنتهم وفيه نشؤوا وترعرعوا في شوارعه وأزقته وتقاسموا به لقمة العيش
والأيام حلوها ومرها مع أشقائهم السوريين ولم يشعروا ابداً بأنهم أغراب.
بدأ
ذلك الكابوس اللعين يوم بدأ ياسمين الشام يكتسي اللون الأحمر وبدأت تفوح رائحة
الدم بدلاً من شذى عطره ليصبح المخيم عندئذ المأوى الآمن لسكان المناطق المجاورة
له.
ولكن
المفاجأة الأشد كانت في ظهر ذلك اليوم
اللعين أو كما يطلق عليه بعض أهالي المخيم "بالكابوس"، حينها كنا نجلس في منزلنا ونستمع إلى صوت أزيز
الرصاص، ذلك الصوت الذي اعتدنا عليه وعلى أصوات القذائف بسبب اشتعال جميع المناطق
التي في جوار المخيم، وفي حوالي الساعة الثانية عشر والنصف ظهراً سمعنا صوت
الطيران الحربي يحوم في سماء مخيمنا لم نئبه كثيراً لصوته بحكم اعتيادنا على سماع
تلك الأصوات يومياً لكن الصدمة كانت حين قام هذا الطيران بقصف أحد أكبر جوامع
مخيمنا والذي كان يأوي المئات من العائلات النازحة من المناطق المحيطة بالمخيم.
إلى
هذه اللحظة لايزال صوت الانفجار الذي هز أركان مخيمنا وقلب حياتنا رأساً على عقب،
ماثلاً في أذهان كل ابناء المخيم .
لم
نعرف في بداية الأمر أين قصفت هذه الطائرة؟ عندها لم يكن لدنيا كهرباء أو انترنيت
لنعرف مكان القصف لحين اتصال صديق والدي وإخباره أن غارتين استهدفتا جامع عبد
القادر الحسيني ومدرسة الفلوجة وأن الحي يعم بعشرات الضحايا بين قتيل وجريح.
بعد
القصف بساعات بدأت المجموعات المسلحة التابعة للمعارضة السورية تستبيح أزقة وشوارع
المخيم و ازداد معها مسلسل القصف للمخيم، يومها أخذت اقلب النظر في وجوه أهلي حيث
أنني لا أنسى وجه أخي الصغير الذي أصطبغ باللون الأصفر الشاحب ولا ملامح ونظرات
الخوف الظاهرة على وجه أمي وأخواتي.
في
هذه اللحظات والساعات المقيتة التي نعيشها بدأت انتشار الشائعات بين أهالي المخيم
بأن جيش النظام أعطى مهلة للأهالي بإخلاء المخيم حتى الساعة الثامنة من صباح اليوم التالي.
لقد
صدّق الناس هذه الإشاعة ودب الخوف والذعر فيهم خاصة بعدما علموه وشاهدوه من
المجازر التي ارتكبت في المناطق الأخرى.
تصفحت
الانترنت بعد وصول التيار الكهربائي بحثاً عن صحة هذه الإشاعة لكنني لم أجد ما
يؤكدها أو ينفيها في هذا الوقت اتخذ والدي قرار بعدم الخروج من المخيم، ولكن في
صباح اليوم التالي استيقظت في حوالي الساعة السابعة فوجدت والدي يقف على شرفة
منزلنا ينظر باستغراب، فسألته ما الذي يحصل؟ فقال : "تعال وانظر الجيران
يرحلون فهم يحملون ما استطاعوا بغية الخروج من المخيم!"، لم يكمل كلامه إلا
وباب بيتنا يطرق وإذا بصوت جارنا ينادي يا أبو محمد " شو ما بدك تطلع لم يبقى
أحد في البناية إلا أنت، وأضاف كل الناس طلعت يلا شو ناطر قبل ما تخلص
المهلة" .
حينها
نظر أبي إلى وجه أمي وإخوتي ورأى في عيونهم علامات الخوف والرجاء واضحة ولسان
حالهم أشفق علينا ودعنا نخرج، فقال لأمي أحضري قليلاً من الثياب لنأخذها معنا،
وطلب مني أن أنزل معه لتحضير سيارتنا ذات الزجاج المكسور بفعل الشظايا، وفعلاً
نزلنا ووضعنا قطعة من الكرتون بدلاً من الزجاج الخلفي وركبنا سيارتنا وهممنا
للخروج من المخيم كان المشهد تدمع له العيون فأهالي المخيم في وضع هستيري مسرعين
للخروج مشياً على الأقدام لعدم السماح بدخول السيارات فتجد فيهم من يحمل أمه أو
والده المريض على ظهره والمرأة التي تمسك بأيدي أطفالها خوفاً من ضياعهم، مشهد
يعيد إلى الذاكرة نكبة أجدادنا حين خرجوا من فلسطين.
خرجنا
من المخيم ولم نكن نعلم أنه ربما يكون خروجنا الأخير، ومرت ثلاث سنوات من الضياع
إلا أننا ما زلنا ننتظر عودتنا إلى حاضنتنا التي شكلت وعينا وأشربنا فيها حبنا
لوطننا الكبير فلسطين.