اليرموك معركةً ومخيماً
عبدالله السويجي
قبل 1380 عاماً وقعت معركة اليرموك
بين جيش الامبراطورية البيزنطية، الذي كان أقوى جيوش العالم، وجيش من المسلمين
بقيادة القائد المسلم خالد بن الوليد، وكان جيش المسلمين أقل بكثير من جيش هرقل
الذي كان يقود تلك الامبراطورية آنذاك، وكانت نتيجة المعركة أول بداية موجة
انتصارات للمسلمين خارج جزيرة العرب، ومهدت لتقدم الإسلام السريع في بلاد الشام،
وبشهادة العديد من المؤرخين العرب والأجانب، كانت معركة اليرموك من أعظم المعارك
الإسلامية، حيث لقي جيش الروم هزيمة قاسية، وقد أدرك هرقل الذي كان يعسكر في مدينة
حمص حجم الهزيمة، فغادر سوريا نهائياً، واستقر المسلمون على إثرها في بلاد الشام،
ثم واصلوا فتوحاتهم إلى الشمال الإفريقي .
وبعد 1320 سنة من هذه المعركة، أي في
العام ،1957 وفي المنطقة ذاتها، أقيم مخيم للفلسطينيين الذين طردتهم العصابات
الصهيونية من فلسطين، وسُمّي بمخيم اليرموك، نسبة إلى تلك المعركة وتيمناً بها،
وقد أقيم على مساحة تزيد على كيلومترين مربعين بقليل، وبدأت وكالة غوث اللاجئين
الفلسطينيين التابعة للأمم المتحدة تديره وتقدم الخدمات لسكانه، وشيئاً فشيئاً كبر
المخيم، وسكن فيه الفقراء من السوريين، وأصبح عدد الفلسطينيين المقيمين فيه حوالي
150 ألف نسمة، واعتبر أكبر تجمع للفلسطينيين في سوريا .
قبل ثلاث سنوات اندلع الصراع في
سوريا بين النظام والقوى المعارضة، ثم ما لبث أن تحول إلى صراع بين النظام
والحركات الإسلامية المتشددة، التي تدين بالفكر السلفي الجهادي، ووقع المخيم بين
فكي كماشة، بين جنود النظام والمسلحين الإسلاميين، وفي منتصف شهر ديسمبر/ كانون
الأول من العام ،2012 انطلقت حملة عسكرية على المخيم بعد تقدم قوات المعارضة من
الأحياء الجنوبية،
وكان من الطبيعي أن يدافع أبناء
المخيم عن أنفسهم، فتورطوا في الصراع، وسقط منهم عشرات الضحايا بالرصاص والقذائف،
وتهدمت بيوت كثيرين، وحوصر المخيم حصاراً مقيتاً، حتى بدأ سكانه يعانون أزمة غذاء
ودواء، ومات أكثر من 97 من سكانه جوعا، معظمهم من الشيوخ والأطفال والنساء، ما
اعتبر وصمة عار في جبين المتقاتلين .
وكالة "الأونروا" نشرت
الأسبوع الماضي صوراً قاسية جداً تظهر المأساة التي يعانيها أكثر من 20 ألف لاجئ
فلسطيني، حيث ظهروا بأجسادهم الهزيلة، يتدافعون للحصول على مساعدات .
وكالات الأنباء الأجنبية كانت أكثر
إنسانية من مثيلاتها العربيات، حيث قامت وكالة فرانس برس على سبيل المثال بزيارة
تلك الأفواج المتدافعة ونقلت تقارير عن أوضاعهم: "يبحث اللاجئون في مخيم
اليرموك عما يسّد الرمق في حاويات القمامة في حين ينتظر العجائز المسنون في
الشوارع مستسلمين أن يودعوا هذا العالم . . إنه الموت البطيء في مخيم اللاجئين
الفلسطينيين الضخم الواقع جنوب دمشق والمحاصر منذ أشهر من الجيش السوري" .
وقال أحد الناشطين: "نأكل الأعشاب ونعد منها أحياناً حساء لكن طعمه مر"،
حتى الحيوانات لا ترغب في احتسائه " . . ." وإذا قصدنا حقلاً لجمع أعشاب
يطلق قناص علينا النار (وقد وزعت "الأونروا" 7500 رزمة غذاء وصفها أحدهم
أنها "قطرة في محيط" .
المخيم لا يزال محاصراً حتى اللحظة،
والقتال لا يزال مستمراً بين النظام والمسلحين حتى اللحظة أيضاً، ولم يفهم أي من
الطرفين أن المحاصرين هم لاجئون في الأصل، وليست لهم علاقة بالقتال الشرس الجنوني
الذي يدور من دون رحمة، حتى إن أجزاء كثيرة من المخيم باتت ركاماً، أي إن على
الفلسطيني أن ينتقل في حياته من مخيم لجوء إلى مخيم لجوء آخر، وكتب عليه أن يموت
ألف مرة بيد العدو والصديق والقريب، من ابن الضاد والدين، قبل أن يلاقي وجه ربه،
والأمر الأكثر مأساوية أن يلاقي وجه ربه جائعاً، فأية مقارنة يمكن عقدها بين ما
حدث في معركة اليرموك قبل 1380 عاماً، وبين ما يحدث الآن في مخيم اليرموك؟ وأية
مقارنة يمكن عقدها بين حصار الجيش الصهيوني للمخيمات الفلسطينية في غزة والضفة
الغربية، وبين حصار الجيش والمسلحين لمخيم للاجئين الفلسطينيين في الشتات؟
القيادة الفلسطينية تنبهت للحصار بعد
أكثر من عام، وشجبت في بيانات رسمية وتصريحات صحفية ما يتعرض له الفلسطينيون في
مخيّم اليرموك، بالضبط كما يفعل أي مسؤول دانمركي أو أسترالي أو سويدي، وكأن لغة
الشجب ترفع الحصار، واكتفت القيادة بالشجب وتركت باقي الأمر لوكالة غوث اللاجئين
الفلسطينيين، كما تركت سكان المخيم لرحمة الجيش السوري والمسلحين الذين يسمون
أنفسهم إسلاميين، أو حتى "الجيش الحر" الذي جاء ليخلص الناس من نظام
يعتبره استبدادياً، بينما يمارس الجميع، موالون الممارسة ذاتها ضد مجموعة من
اللاجئين الفلسطينيين، يقيمون في مخيم اسمه اليرموك، ويحلم سكانه أن يأتي رجل بحجم
خالد بن الوليد ليخلصهم، كما فعل القائد الفذ قبل 1380 عاماً، وهزم أعظم جيش في
العالم وقتذاك، ولكن المقارنة هنا مختلفة، خالد بن الوليد كان يقاتل جيش الروم،
ولكن من سيقاتل القائد الجديد؟ هل من يحاصر المخيم بيزنطيون جدد؟
سكان مخيم اليرموك شأنهم شأن سكان
أية قرية أو مدينة سورية، يعانون الويل والظلم من قبل المتقاتلين، ورفع الحصار عن
المدنيين تكفله كل القوانين الدولية الإنسانية، التي تمنع اتخاذ المدنيين دروعاً
بشرية، أو اتخاذهم ذريعة في معركة عض الأصابع، ويكفي أن الاقتتال قد هجّر ملايين
السوريين من بيوتهم وأراضيهم، وأصبح كثير منهم متسولين ينتظرون قوت يومهم من
المحسنين، فهل هذا ما تريده المعارضة وهي تقاتل النظام، وهل هذا ما يريده النظام
وهو يقاتل (الإرهاب)؟
هؤلاء المدنيون لا يهمهم من سيصل إلى
الكرسي ويستلم السلطة، لأنهم يعتقدون أن الوصول إلى كرسي السلطة يجب ألا يمر من
خلال لقمة أطفالهم .
لماذا حولوا الناس إلى حيوانات تأكل
العشب، وأية إنسانية هذه التي يتحدث عنها المسؤولون، أو الذين يقودون المعارك
ويغذون القتال، التي تسمح لإنسان أن يأكل العشب ويموت جوعاً؟
إن مأساة سكان مخيم اليرموك تشكل
وصمة عار على وجوه كل من يتحدث في السياسة والإنسانية والنصر والإسلام والجهاد
والديمقراطية والسلطة، وكل إنسان سوري وغير سوري يموت جوعاً في وقت يعاني كثير من
التخمة، يشكل وصمة عار على جبين المتحاربين ومن يساندهم، ولن تُمسح هذه الوصمة إلا
بفك الحصار عن كل المدنيين، وجلوس المتقاتلين وجهاً لوجه، من أجل استعادة ابتسامة
طفل، ألا يستحق طفلٌ هذا العناء!
المصدر: الخليج الإماراتية