"انضموا إلى حلف وارسوا"
بقلم: أحمد الحاج
بيروت، لاجئ نت
تعود قصة الشعار أعلاه إلى ما بعد الاجتياح الإسرائيلي للعاصمة اللبنانية بيروت. عاد يومها سكان مخيم برج البراجنة إلى مخيمهم بعد أن هجروه إثر قصف صهيوني مركّز. كانت الحياة قاسية؛ بفعل استشهاد العشرات من أبناء المخيم، خصوصاً على محور المطار وحي السلّم. إضافة إلى تدمير أجزاء واسعة من المخيم، وخروج المئات من الشبان والرجال إلى المنافي عبر مرفأ بيروت.
كان الخوف هو المحرّك الأساس لمعظم الأفكار التي راودت السكان، والأسئلة لا تجد من يسكّنها بإجابات مطَمئنة: هل يحصل لنا ما حصل في مخيم شاتيلا من مذابح؟ ما مصير الشبان الذين اعتقلهم الجيش اللبناني، وهل صحيح ما ذكره أحد الوجهاء أن أعضاءهم تُباع لمن يشتري؟ قلق الأسئلة كان يسكن الجميع إلاّ فئة قليلة، كان واحد منهم كاتب شعار "انضموا إلى حلف وارسوا".
كنا صغاراً، نذهب إلى مسجد فلسطين في المخيم، قرأنا يومها الشعار بخطّ أحمر متقطع على جدار بالقرب من المسجد. الأحرف المتقطعة تشير إلى أن كاتبه كان يكتبه على عجل، فالخوف ضعف إنساني لا يتجاوزه إلى الأنبياء وصفوة خلق الله. وأن يكتبه رغم خوفه، فإنه لا بدّ من أمر جلل ومسؤولية أشعرته بواجب الكتابة، وتأدية الرسالة.
سألت أقراني عن "حلف وارسوا"، فعجزوا عن الإجابة، وكنت أظن أن "وارسوا" لها علاقة بالسفن التي حملت المقاتلين والثوار من بيروت، ورست في تونس واليمن والجزائر. أجابني من هو أكبر مني سناً، أن وارسو هي مدينة بولندية، والحلف المذكور يضم الدول الشيوعية، أما الألف في الشعار، فهي خطأ إملائي لا أكثر. ورغم شرحه المطوّل لم أفهم لماذا وكيف ينضم المخيم إلى حلف وارسو! وخشيت أن أسأل أكثر حتى لا يكتشف سائلي جهلي.
كانت جدران المخيم وقتها قد تحوّلت إلى ما يشبه البيانات السياسية، والشعارات الداعية إلى الصمود، وعدم القنوط، والتذكير بأمجاد من مضوا شهداء، والتمسّك بنهجهم، والوعيد لكل من يتعامل. كل صباح شعار جديد: هناك خريطة فلسطين، وكتب تحتها باللون الأخضر "أحرار فلسطين". وهنالك طُبع على الجدران "الكف الأخضر"، مع رسم لهذا الكف. وللكف الأخضر حكاية طويلة يذكرها جيداً من عاش أيام الجهاد في فلسطين. فمجموعة الكف الأخضر هي أولى المجموعات الثورية ظهوراً بعد ثورة البراق. وقد تركز نشاطها في شمال فلسطين وخصوصاً في قضاءي صفد وعكا. وقامت هذه المجموعة بهجمات ضد المستوطنين وضد الشرطة. وقد تولى قيادتها أحمد طافش. ولها حكاية طويلة في اغتيالات القادة البريطانيين.
ولا ننسى الشعار الذي رافق قصف المدمّرة نيوجيرسي للمواقع الفلسطينية في الجبل وهو –أي الشعار- "بجاه العرش والكرسي، دمّر يا ربّ نيوجرسي". فهِمنا تلك الشعارات بسهولة نسبية، أو بعد سؤال من هم أكبر منا سناً. لكن بقي شعار "انضموا إلى حلف وارسوا" عصياً على الفهم، أقلّه لكاتب هذه السطور. ويشاء حظي العاثر أن ينفرط عقد الحلف عام 1991، وأن أقرأ عن قدراته النووية والعسكرية، وعدد سكانه الذي تجاوز المائتي مليون، ودوله السبع، ومساحتها التي قاربت ثلاثة أضعاف مساحة الولايات المتحدة. وللقارئ أن يتخيل الإضافة التي يمكن أن يضيفها مخيم برج البراجنة إلى ذلك الحلف لو فعلها وانضم إليه في عام 1982-1983!
قصة الشعار المذكور لا تنحصر بأنها حدث مرّ عليه الزمن، بل إن هناك شعارات حاضرة تماثل ذاك الشعار، بمضمونها النفسي، وأهدافها الاجتماعية والسياسية. فالكثير من السياسيين في مخيماتنا في لبنان يلجأون لشعارات كبيرة لحرف الأنظار عن إخفاقاتهم في التنمية والاجتماع والسياسة.
فكما في بعض الحالات النفسية يهرب من تصيبه مشكلة كبيرة إلى تفاصيل صغيرة، كذلك يتم الهروب من المشاكل الصغيرة التي يعجز الإنسان عن حلّها إلى شعارات كبيرة ليُظهر أن هناك قضايا أكثر أهمية ينبغي حلّها أولاً.
تحدّث المسؤولين عن مياه آسنة ومجارٍ فيحدثونك عن تحرير القدس. تسألهم عن النضال اليومي في سبيل إسقاط القوانين الجائرة بحق الفلسطينيين، فيجيبون بأرقام عن الاستيطان. تسأل عن الفقر، والتعليم، والصحة، والفساد، والمأساة الشاخصة في مخيماتنا، فينظرون إليك نظرة التشكيك لأنك "تلهو عن القضية المركزية بقضايا فرعية". وكأن المقاومة والتنمية نقيضان، والتحرير والتعليم لا يلتقيان، وبالفقر والجهل سنهزم الاستيطان! إنه اعتراف غير مباشر بالعجز.
حدّثنا أحد رجال الدين أنه كان يخطب الجمعة في مسجد في غزة لسنوات طويلة، يحدّث المصلين عن المسلمين في أفغانستان وجنوب الفليبين، وبلاد الطاجيك. ثم سافر عدة سنين إلى خارج القطاع، ولما عاد تذكّر أنه تحدث عن كل شيء، ولم يتحدّث عن مجرور، أمام المسجد، تنبعث منه الروائح الكريهة.
وخلاصة القول إن هناك في مخيمات ما زال إلى اليوم ينادي بأن اتركوا مشاكلكم "الصغيرة" و"انضموا إلى حلف وارسوا".