تمهيد: الموقف الإسلامي من قيام (إسرائيل)
قيام (إسرائيل) في نظر الشريعة الإسلامية إنما هو "عملية غصب كبرى" ممهد لها ومصحوبة ومتنوعة بأعمال إجرامية لا تعد ولا تحصى تمتد وتتواصل ما يقرب من قرن من الزمن، من قتل لمئات الآلاف من الفلسطينيين ومن طرد وتشريد للملايين ومن ترويع وتعذيب واعتقال لما لا يحصى من الناس إلى غير ذلك مما نعيشه ونشاهده في كل يوم.
والحقيقة اننا لو رجعنا إلى الديانتين اليهودية والمسيحية في مبادئهما وقيمهما لما وجدنا غير هذه النظرة ذاتها.
من هنا فإن (إسرائيل) في النظرة الإسلامية وفي كل نظرة دينية صحيحة إنما هي سلسلة من الأعمال الباطلة ومن الجرائم الفاحشة التي تستوجب الرفع والإزالة من جهة وتستوجب معاقبة الجناة من جهة ثانية وتعويض الضحايا من جهة ثالثة.
فمن القواعد التشريعية القاعدة التي عبر عنها عمر بن الخطاب رضي الله عنه بقوله "الحق قديم" وعبر عنها الفقهاء بقولهم "الحق لا يسقط بالتقادم" والحق هو الشيء الثابت الذي لا يجوز إنكاره.
وبهذا يعني أن جميع حقوق الفلسطينيين تظل ثابته ومستحقة لهم شعباً وأفرادًا مهما تطاولت العصور والأزمان وسواء في ذلك أراضيهم ودمائهم وأعراضهم وأموالهم.
ومن واجب كل مسلم أن يعتقد هذا ويؤمن به، لأنه جزء من شريعته ومن مقيضياتها، كما أن من واجبته أن يبذل جهده أيًا كان نوعه وحجمه لإحقاق الحق وإزهاق الباطل.
ومقابل قاعدة "الحق قديم" توجد قاعدة إسلامية أخرى هي "الضرر لا يكون قديماً"، وتعني أن الضرر لا يكتسب المشروعة بالتقادم، ولايمكن أن يصبح مقبولاً وحقاً بمجرد قدمه وطول عهده.
فالإضرار بالناس وظلمهم والتعسف عليهم هو دائمًا جديد ومتجدد ما دام قائماً. ودائما تلاحقه وتنطبق عليه قاعدة "الضرر يزال"، فبمقتضى هذه القاعدة هو أن "إسرائيل تزال".
على أن (إسرائيل) ليست مجرد ضرر يزال، بل هي ضرر وخطر وفساد وقهر وهلاك، ولذلك فإن المؤمنين بوجوب زوالها أو بحتمية زوالها ليسوا منحصرين في الفلسطينيين، ولا في العرب والمسلمين، بل هم موجودون حتى في اليهود والمسحيين.
هل يجوز التنازل عن حق العودة إلى الأراضي المحتلة سنة 1948 في فلسطين وأخذ التعويض مقابل هذا التنازل؟
إن التنازل عن حق العودة إلى الأراضي الفلسطينية لليهود المغتصبين حرام قطعاً، ولا شك فيه للأدلة التالية:
الدليل الأول:
إن العودة إلى الأراضي الفلسطينية ليس فقط حقاً بل هو واجب يبذل لأجله النفس والمال كما ذكر الفقهاء: (إن الجهاد في هذه الحالة يصبح فرض عين على كل مسلم ومسلمة، فيخرج العبد بدون أذن سيده، وتخرج المرأة بدون أذن زوجها-إن كان في المرأة قوة دفع، على أصح الوجهين ويخرج الولد بغير أذن الوالدين، ويخرج المدين بغير أذن صاحب الدين) وهذا مذهب الأمة مالك وأبي حنيفة وأحمد بن حنبل.
والمقطوع به أن اليهود اغتصبوا هذه الأرض المقدسة (فلسطين) ولا يجوز مساومتهم على شيء إلا الخروج من الأرض التي اغتصبوها عنوة، وقتلوا الآلاف من أبناء الشعب الفلسطيني ولا يزالون يقتلون ويعاثون في العرض الفساد إلى هذه اللحظة.
الدليل الثاني:
على افتراض أن هذا واجب "أي حق العودة إلى فلسطين" فهو من حقوق الله تعالى التي لا حق لأحد في أن يتنازل عنه أو بيعه لأنه متعلق بعلو كلمة الله تعالى في الأرض المقدسة، والإخراج من الديار فتنة في الدين أجاز فيه القرآن الكريم القتال في الأشهر الحرم والمسجد الحرام حيث يقول تعالى: (يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه، قل قتال فيه كبير وصد عن سبيل الله وكفر به والمسجد الحرام وإخراج أهله منه أكبر عند الله، والفتنة أكبر من القتل، ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم إن استطاعوا) البقرة- الآية 217.
فقرن الله تعالى الفتنة وهي أكبر من القتل بالإخراج من الديار، فكل ما يتعلق بالدين أو العرض هو حق لله تعالى ولا يجوز التنازل عنه أو التفريط به وعليه لا يجوز للمرأة أن تفرط في عرضها والتراضي بهذا التنازل باطل. ولأن في ذلك إقراراً للمغتصب على عدوانه واغتصابه وتمكيناً له وهو من أعظم المحرمات قال تعالى (ولا تهنوا وتدعوا إلى السلم وأنتم الأعلون والله معكم ولن يتركم أعمالكم) سورة محمد-الآية 35.
الدليل الثالث:
على افتراض أن حق العودة حق شخصي لازم لكل فلسطيني فلا يجوز لأي مسلم أن يتنازل عن حقه أو بيعه بالتعويض لأن الاسلام يأبى الدنية لاتباعه، ويرفض لهم الذلة والهوان، والله سبحانه وتعالى جعل العزة للمؤمنين وقد دلت النصوص الشرعية على أنه من حاول أن يستدل المسلم أو أن يجتاح حقه فالواجب الشرعي عليه أن يدافع عن حقه لقوله تعالى (ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين). جاء في الحديث الشريف (جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يارسول الله إن فلان يريد أخذ مالي؟ قال: (لا تعطه مالك) قال: أرأيت إن قاتلني؟ قال (قاتله) فال أرأيت إن قتلني؟ قال (فأنت شهيد) قال: أرأيت إن قتلته؟ قال: (هو في النار). رواه مسلم
وجاء في السنن عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أيضاً : (من قتل دون ماله فهو شهيد، ومن قتل دون دينه فهو شهيد، ومن قتل دون أهله فهو شهيد) رواه أبو داوود والنسائي والترمذي وابن ماجه.
الدليل الرابع:
إن التنازل عن حق العودة إلى فلسطين مقابل التعويض هو زيادة في تمكين اليهود وهو محرم بقوله تعالى: (ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا)
قال الإمام النووي: (لايجوز تمكين الكفار من الاستيلاء على الإسلام).
وقال القرطبي: (لو اقترب الكفار من دار الإسلام ولم يدخلوها لزم المسلمين الخروج إلى الكافر: حتى يظهر دين الله، وتحمي البلاد وتحفظ الحدود والثغور)
قال البغوي: (إذا دخل الكفار دار الإسلام، فالجهاد فرض عين على من قرب، وفرض كفاية في حق من بعد!)
والتنازل عن الأرض للعدو بالتراضي أو البيع "أي التعويض مقابل التنازل عن حق العودة" يعني سيادة اليهود على المسليمن وأرضهم وإعلاء لكلمة الكفر على كلمة الله عز وجل.
ويتفرع عن هذه المسألة، هل يجوز أخذ التعويض عن التشريد؟
حق التعويض عن التشريد من الأرض جائز بل واجب، لأن الذين شردوا تضرروا فيجب لهم التعويض عن طردهم وتشريدهم، كما يجب عليهم العودة إلى الأرض والتمسك بهذا الحق، ولا يجوز أخذ التعويض مقابل التنازل عن حق العودة.
لذا فإن عبارة (حق العودة والتعويض معاً) جائزاً شرعاً أي أن اللاجئ له الحق في العودة إلى دياره كما أن الحق أيضاً في المطالبة بالتعويض عن الأضرار والمعاناة والخسائر التي لحقت به وبأولاده وأحفاده.
في حين أن العبارة التي تقول (حق العودة أو التعويض) فلا يجوز شرعا"ً لأن المحظور قائم فيها لأن التعويض عن الأرض محرم شرعاً. ومن القواعد المقررة عند العلماء أن كل اتفاق يحل حراماً أو يحرم حلالاً أو يمنع حقاً محرم وباطلٌ قطعاً لقول الرسول صلى الله عليه وسلم (الشرط جائز بين المسلمين إلا شرطاً أحل حراماً أو حرم حلالاً).
أما الذي لا يرغب في العودة فليس له الحق بأخذ التعويض مطلقاً مهما كانت الأسباب ومهما كانت المبررات لأن بيع حق العودة هو زيادة تمكين لليهود ونفي الحق والمطالبة بالعودة والرجوع إلى الأرض المقدسة وهو محرم بقوله تعالى (ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلاً) وإذا كان هذا حراماً فإنه يحرم ثمن كل شيء محرم ومن الأدلة الصريحة في ذلك ما أورده الحميدي في مسنده والشوكاني في نيل الأوطار (8: ص 170) عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رجلاً أهدى النبي صلى الله عليه وسلم روايه خمر (إي إناء كبير من الخمر يشبه الجرة) فقال صلى الله عليه وسلم: إنها قد حرمت فقال الرجل: أفلا أبيعها؟ فقال صلى الله عليه وسلم: إن الذي حرم شربها حرم بيعها قال الرجل: أفلا أكارم بها اليهود قال النبي صلى الله عليه وسلم: إن الذي حرمها حرم أن يكارم بها اليهود، قال فكيف أصنع بها قال: هنها على البطحاء أي أكسرها على الحجر والحديث يدل على أن الأعرابي الذي أراد أن يهدي للنبي صلى الله عليه وسلم خمراً لم يعرف أنها حرمت فلما علم بالتحريم قال إذا الحل هو البيع لكن النبي صلى الله عليه وسلم أخبره بقاعدة: إن الله إذا حرم شيئاً حرم بيعه وفي رواية حرم أكل ثمنه فأراد أن يقدمها هدية لأحد اليهود لأنها عندهم حلال، فغضب النبي صلى الله عليه وسلم وقال اكسرها على الحجر ولا تعطها لهم. والحق أن بيع الخمر لليهودي خطره أقل بكثير لمن عنده أدنى فقه في الشريعة والسياسة من بيع الأرض ليهود يفعلون فيها ما يشاؤون وتعلو سطوتهم على المسلمين أجمعين.
ويضاف إلى ذلك أن أهم عناصر وحدة الدولة واستقرارها هو (الأرض)، بالإضافة إلى الشعب والقانون والقيادة كما قرر فقهاء القانون الدولي (وإسرائيل) تسعى في تكثيف الهجرات كي تضاعف من اليهود وتطرد أبناء الأرض لتختل المنظومة السكانية. ثم هي تحاول جهدها أن تتوسع في هذا المخطط الصهيوني الرهيب من خلال تهجير الملايين من الشعب الفلسطيني ومصاردة الأراضي.
ولما كان حق العودة عنصراً مؤرقاً لاستقرار دولة الكيان الصهيوني فاليهود وحلفائهم يرفضون حق العودة للاجئين الفلسطينيين ولذا يعرضون العروض الرخيصة وهي بيع حق العودة تحت مسمى التعويض.
وأخيراً نقول ستبقى أرض فلسطين أرض خراجية وقفية مقدسة مباركة بإجماع الصحابة منذ الفتح العمري وقبول التعويض والتنازل عنها لغير المسلمين من أعداء الإسلام باطل شرعاً ومن أعظم المنكرات والآثام ذلك أن الذي يقبل التعويض عن أرضه وعقاره في فلسطين لليهود يكون مشاركاً في التنازل عن اسلامية أرض فلسطين لتصبح يهودية ومساعداً على هدم المسجد الأقصى وبناء الهيكل عل أنقاضه. ويكون موالياً لليهود ناصراً لهم في تحقيق أهدافهم التوراتية بتهويد أرض الإسلام وفلسطين وهدم المسجد الأقصى أولى القبلتين وثالث المسجدين الذي تشد إليه الرحال، خائناً لوطنه ومقدساته، بائعاً لدماء المجاهدين والعلماء والشهداء الذين ضحوا بأرواحهم وأموالهم ودمائهم لتحرير فلسطين منذ عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى يومنا هذا. وهذا كله من أعظم الكبائر والآثام وموالاة لأعداء الله، والله يقول: "ياأيها الذين أمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتوفهم منكم فإنهم منهم. إن الله لا يهدي القوم الظلمين" المائدة الآية 51.
ولقوله تعالى: "إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم وظاهروا على إخراجكم أن تولوهم، ومن يتولهم فأولئك هم الظالمون". الممتحنة –الآية 9.
وقد سبق أن أفتت لجنة كبار العلماء في الأزهر الشريف بهذا، وقالوا في فتواهم: (ولا ريب أن مظاهرة الأعداء وموادتهم يستوي فيها أمدادهم بما يقوي جانبهم ويثبت أقدامهم بالرأي والفكرة وبالسلاح والقوة) ومن المعلوم أن التنازل للعدو عن الأرض التي نملكها في فلسطين هو من أعظم ما يقوي جانب العدو ويعطيه الشرعية لاغتصابه وعدوانه.
وقد أشار القران الكريم إلى أن موالاة الأعداء إنما تنشأ عن مرض في القلوب يدفع أصحابها إلى هذه الذلة التي تظهر بموالاة الأعداء قال تعالى (فترى الذين في قلوبهم مرض يسارعون فيهم) أي يهرولون فيما يدعوهم إليه أعداؤهم من تطبيع أو بيع أرض (يقولون نخشى أن تصيبنا دائرة فعسى الله أن يأتي بالفتح أو أمر من عنده فيصبحوا على ما أسروا في أنفسهم نادمين) المائدة – الآية 52.
ويحرم شرعاً على المسلمين أن يمكنوا (إسرائيل) ومن ورائها الدول الإستعمارية... من تنفيذ تلك المشروعات التي يراد بها الازدهار لدولة اليهود وبقاؤها في رغد من العيش وخصوبة في الأرض حتى تعيش كدولة تناوئ العرب والإسلام في أعز دياره وتفسد في البلاد أشد فساد.
ومن المعلوم شرعاً أن أرض فلسطين أمانة في عنق كل مسلم وصاحب الأرض آمين على أرضه بحفظها إسلامية ومن تنازل عنها ليهود خان الأمانة وخان الله ورسوله قال تعالى: (يا أيها الذين أمنوا لا تخونوا الله والرسول وتخونوا أماناتكم وانتم تعلمون) الأنفال الآية 27.
والله تعالى أعلم
المصدر: البراق