بلفور الظالم المظلوم
بقلم: ربيع أبو حطب
لم يكن بلفور بريطانيا إلا حلقة في سلسلة
الأسلاك الشائكة التي أحاطت فلسطين ليتم احتلالها، فقد سبق بلفور بريطانيا بلفور فرنسي
وبلفور روسي وبلفور ألماني وبلفور مصري وسعودي وقد تعدى الأمر ليصبح لدينا بلفوراً
فلسطينياً بغطاء بلفوري عربي.
إن ضياع فلسطين ما كان ليتم إلا من خلال
تزييف وعي الأمة، فلم يكن الاحتلال العسكري الصهيوني حيث سلمت دولة الانتداب البريطاني
فلسطين لمجموعة من العصابات الصهيونية إلا النهاية الحتمية لهذا التزييف الذي عملت
عليه الحركة الصهيونية منذ ما يزيد عن مائتي عام.
وأنه وفي كل عام حيث تعقد المؤتمرات والندوات
المنددة والمطالبة لبريطانيا بالاعتذار، فإن الاكتفاء بهذه الدعوات النظرية فقط لا
يساهم إلا بالإبقاء على حالة الغيبوبة في وعي الأمة، وذلك من خلال إلقاء اللوم على
بريطانيا بل على بلفور فقط.
وحتى نصل للعلاج المناسب، لابد أن نشخص
المرض جيدا بادئين بتاريخ الإصابة بفايروس الأطماع الصهيونية وليس من تاريخ انتشار
المرض واستفحاله في الجسد الفلسطيني.
فقد كانت أولى ارهاصات هذا المرض في عام
1791 ( بلفور الفرنسي ) حيث كان نابليون بونابرت أول من نادى بإقامة دولة يهودية تابعة
للإمبراطورية الفرنسية في فلسطين، لذلك فلقد قام المليونير اليهودي روتشيلد بتمويل
حملة نابليون على مصر، وليس ذلك فقط فقد صدرت الأوامر لصناع السفن اليهود في جنوه في
إيطاليا ببناء قطع الأسطول الذي رافق نابليون في حملته على مصر.
وفيما يلي الجزء المهم من نص الوعد:
(من نابليون القائد الأعلى للقوات المسلحة للجمهورية
الفرنسـية في أفريقيا وآسيا إلى ورثة فلسطين الشرعيين. أيها الإسرائيليون، أيها الشعب
الفريد، الذين لم تستطع قوى الفتح والطغيان أن تسلبهم اسمهم ووجودهم القومي، وإن كانت
قد سلبتهم أرض الأجداد فقط).
تلى ذلك ( بلفور الروسي ) ففي عام 1901
وبتفويض من المؤتمر الصهيوني الخامس التقى هرتزل بوزير الداخلية الروسي فون بليفيه،
حتى يَحصُل على تصريح يُعبِّر عن نوايا الروس، وبالفعل صدر.
وهذا هو منطوق الوعد: (ما دامت الصهيونية
تحاول تأسيس دولة مستقلة في فلسطين، وتنظيم هجرة اليهود الروس، فمن المؤكد أن تظل الحكومة
الروسية تحبذ ذلك. وتستطيع الصهيونية أن تعتمد على تأييد معنوي ومادي من روسيا إذا
ساعدت الإجراءات العملية التي يفكر فيها على تخفيف عدد اليهود في روسيا).
وقد لحق ذلك (بلفور الألماني) ففي عام
1916 حصلت الحركة الصهيونية على موافقة غير معلنه على تعاطف المانيا مع اليهود ودعمهم
لإقامة وطن لهم في فلسطين، لكن من منع المانيا من الإعلان عن ذلك تحالفها ومصالحها
مع الدولة العثمانية.
وإلى أن وصلنا إلى وعد بلفور البريطاني
فإن الثابت تاريخيا أن بلفور كان من أكثر الشخصيات الكارهة لليهود وقد هاجمهم بشدة
لعدم اندماجهم مع السكان، لكن الجدير بالذكر أن نص القرار واضح أنه توجد هيئة حكومية
هي من شرعت هذا القرار وهو بمثابة وثيقة سياسية حيث لم بنظر بعين العطف على اليهود
كلاجئين او مساكين بل على حقهم بإقامة وطن لهم.
وإلى أن تم تحقيق الوعود البلفورية وإقامة
دولة الاحتلال الصهيوني، فمنذ اللحظة الاولى لإعلان هذا الكيان توالت الوعود البلفورية
حيث اعترفت عشرات الدولة بهذا المولود الغير شرعي.
وتوالت النكبات بالوعود البلفورية العربية،
ففي خمسينيات هذا القرن وقع وزير الخارجية المصري على ورقة اقتطاع نصف مساحة قطاع غزة،
حيث قامت دولة الاحتلال بالذهاب للأمم المتحدة واعتماد وترسيم هذه الورقة التي اخفاها
الوزير رياض عن الشعب الفلسطيني والنظام المصري، تلى ذلك بداية ارهاصات البلفور الفلسطيني
حيث برنامج النقاط العشر التي من خلالها تم الولوج للحل المرحلي مع إسرائيل واعتماد
المفاوضات سبيلاً لذلك، أما في أول الثمانينات فكان البلفور السعودي المتمثل بمبادرة
الملك فهد للسلام.
وما إن التهم فايروس الاطماع الصهيونية
الجسد الفلسطيني، بدأت ملامح سيطرة المرض حيث ابتلينا بوعد بلفوري فلسطيني تمثل في
اتفاق أوسلو والتنازل عن 78% من مساحة فلسطين التاريخية، ثم تُوج ذلك بوعد بلفوري عربي
تمثل في اعتماد المبادرة العربية للسلام، ليصبح الاحتلال الصهيوني مرضاً مزمناً وورماً
خبيثا لا حل له إلا بالاستئصال.
لم ولن اكون في لجنة الدفاع عن بلفور بريطانيا،
لكن كي نضع الأمور في نصابها فإن الأمة بمجموعها والقضية الفلسطينية على وجه الخصوص،
ابتليت بالكثير من الوعود البلفورية التي مزقت جسدها الطاهر واوصلتها لما وصلت إليه
من تيه سياسي وفكري، يمثل في اختزال قضية احتلال فلسطين في وعد بلفور البريطاني.
ستبقى فلسطين على موعد مع النصر وقبلة لكل
الأحرار، وسيأتي اليوم الذي يقتص فيه من كل المتنازلون ولا نامت أعين البلفوريون.