بواكير انتفاضة جديدة في فلسطين؟
علاء العزة*
أن ما يحدث اليوم في فلسطين المحتلة
اشارة على تحول في العلاقة مع الاستعمار الاستيطاني الصهيوني. إن خروج هذا الكم
الهائل من المتظاهرين في مختلف التجمعات الفلسطينية من مدن الجليل والمثلث حتى
القدس وبقية مدن الضفة الغربية، يشير إلى جملة من التحولات في الثقافة السياسية
التي سيطرت على فهم النضال التحرري الفلسطيني خلال العشرين عاماً الماضية،
وتحديداً بعد هزيمة الحركة الوطنية من خلال أوسلو الذي توج انهيار مفهوم التحرر
الوطني وحق تقرير المصير عند النخبة الفلسطينة وتم تبنيه ضمنياً من قبل مجمل
الحركة الوطنية الفلسطينية. ما هي الدلالات التي يمكن استنباطها مما يحدث ليس
باعتباره حدثاً عابراً، وإنما باعتباره بداية لتحوّل في الممارسة السياسية في
فلسطين؟
لماذا بواكير انتفاضة؟
قد يختلف الكثيرون حول توصيف الحالة،
البعض يستخدم مفهوم «الانتفاضة» والبعض الآخر «الهبة الجماهيرية». هذه التعبيرات
هي غير ذات جدوى في ظل غياب مفهوم واضح «للانتفاضة». فتعبير انتفاضة، وتحديداً
ارتباطه بكلمة «الثالثة»، يشير إلى فهم محلي فلسطيني ينطلق من وصف أطلق على تجربة
النضال الجمعي الذي بدأ في نهايات العام ١٩٨٧ (حتى العام ١٩٩٣) باعتباره الانتفاضة
التي أصبحت الانتفاضة «الأولى» بعد بداية أحداث العام ٢٠٠٠ إثر انهيار مفاوضات
«كامب ديفيد» ليصبح اسمها تلك المرحلة (حتى ٢٠٠٥) الانتفاضة «الثانية». هذا
التحقيب مرتبط بنموذج محدد في العلاقة مع المشروع الاستعماري، أي نموذج الانفكاك
من بنية العلاقة الاستعمارية في كل مرحلة. بكلمات أخرى، يصبح مفهوم الانتفاضة مفهوماً
مركزياً في حال وضع ضمن سياق علاقة المستعمَر بوسائل الضبط الاستعماري. ففي تجربة
الانتفاضة الأولى، كان لسان حال العمل الجمعي في الضفة وغزّة تحطيم السيطرة على
المجتمع الفلسطيني وبناء سلطة شعبية وإنهاء سيطرة مؤسسات الحكم العسكري من خلال
الاقتصاد البديل والتعليم الشعبي وإنهاء سيطرة النخب المحلية المرتبطة بالاحتلال.
أما الانتفاضة الثانية فكانت أيضاً محاولة للانفكاك من شروط أوسلو القائمة على
بناء سلطة محلية تقوم على خدمة الاحتلال وليس لها سقف سياسي أعلى مما تحدده
إسرائيل. من خلال هذه الرؤية، يمكن فهم ما يحدث اليوم في فلسطين باعتباره بواكير
انتفاضة حيث انه انقلاب على بنية العلاقة الضبطية الاستعمارية في عدة محاور أهمها:
الانقلاب على احتكار السياسة أو دمقرطة العمل السياسي، تآكل هيمنة السلطة ومشروع
أوسلو الإيديولوجية، انهيار الجغرافيا الاستعمارية، وأخيراً، العودة إلى الفعل
الجمعي.
دمقرطة الفعل السياسي
إن أهم أدوات السيطرة التي مورست على
الفلسطينيين هي تأطير العمل السياسي من ناحية، واحتكاره من الناحية الأخرى. حيث
يظهر التأطير في الضفّة الغربية من خلال جعل العمل السياسي في أقصى حالاته، مشاركة
في العملية السياسية ضمن سقف السلطة الفلسطينية، والمشاركة في العمل السياسي في
الأحزاب والمؤسسات التي تعمل ضمنها، بحيث تمت عملية فصل العلاقة مع الاستعمار
الصهيوني والنضال ضده عن مفهوم المشاركة السياسية، أي أن الفعل السياسي أصبح في
أعلى سقفٍ له محاولة التأثير على القرارات التي تتخذها السلطة من دون ربط الفعل
السياسي بواقع الحال المتمثل بالاستعمار الاستيطاني. وهذا أيضاً يشبه الفعل
السياسي في الداخل الفلسطيني حيث سقف الأحزاب السياسية لا يتجاوز العملية السياسية
المرسومة من النظام «الليبرالي» الصهيوني للفلسطينيين في الداخل. أما عملية
الاحتكار للفعل السياسي فهي إبقاء القرار في العمل السياسي ضد الاستعمار في يد
السلطة الفلسطينية من خلال عملية طويلة من «مهننة» العمل السياسي منذ بداية مشروع
أوسلو (البناء المؤسساتي للسلطة من وزارات وممثلين رسميين)، وأيضاً تحول جزء كبير
من قادة العمل الوطني إلى موظفي مؤسسات غير حكومية، فأصبح العمل السياسي ممؤسساً
لا يخرج عن ما هو مرسوم له بنيوياً. ما يحدث اليوم في فلسطين المحتلة هو عودة
للفعل السياسي من الأسفل حيث أن المشاركة في المظاهرة وضرب الحجر (وعمليات التضامن
لو رمزياً مع من يضرب الصاروخ) هو الفعل السياسي الحقيقي في واقع الاستعمار، حيث
المقاومة هي التعبير الأسمى والأكثر وضوحاً للسياسة. إن عملية المشاركة الجماعية
في الفعل هي جعل السياسة حالة أكثر ديموقراطية، أي تحول الفلسطينيين من موضوع
للفعل السياسي إلى ذوات ممارسة للفعل السياسي ومشاركة في عملية اتخاذ القرار
السياسي. إن التحول إلى ذاتٍ فاعلة في العمل السياسي بالضرورة هو الطريقة الأقصر
لإعادة الاعتبار للسياسية باعتبارها فعلاً تحررياً من قيود الذاتية الاستهلاكية
وعمليات الإخضاع والإقصاء التي مورست على الفلسطينيين خلال السنوات الماضية في
الأراضي المحتلة، ولعقود على فلسطيني الداخل. يكفي النظر إلى المظاهرات في مدينة
القدس أو مدن الداخل لإدراك أن سياسة اللاتسييس الممنهجة قد فشلت، وأن بذور حالة
سياسية ترى الأشياء ضمن منطقها الطبيعي، أي أن السياسية هي فعل مقاومة شعب تحت
استعمار استيطاني يدرك أن المخطط يقوم على إقصائه فيزيائياً وثقافياً.
أفول الهيمنة الإيديولوجية
والبنيوية
منذ إنشاء السلطة الفلسطينية، عملت
هذه السلطة على خلق هيمنة على المجتمع الفلسطيني تمثلت في أحد أهم جوانبها باحتواء
ناشطي «حركة فتح» ضمن بنية السلطة بشكل كامل. وبالفعل، أصبحت «حركة فتح» أسيرة
بشكل كامل لبنية مؤسسة السلطة إلا أن الانتفاضة الثانية أعادت الاعتبار لـ«فتح»
خارج حدود المؤسسة. ما حدث بعد وصول محمود عباس إلى السلطة هو إعادة «حركة فتح»
تحت سيطرة السلطة بشكل كامل، من خلال عملية الاحتواء للناشطين في العمل المؤسسي أو
على هوامش المؤسسة الأمنية. نقول هوامش المؤسسة الأمنية باعتبار حصول عملية إعادة
بناء هيكلي كامل لهذه الأجهزه (وإقصاء الكثير من كادر «فتح» عنها) لتؤدي دوراً
واحداً وهو ضبط المجتمع الفلسطيني، وليس العمل ضد الاحتلال. لكن يخطئ من يعتقد أن
غياب حالة مقاومة في الأراضي المحتلة هو نتيجة السيطرة الأمنية على المجتمع
الفلسطيني فقط. في الواقع، إن عملية السيطرة الأكثر فعالية هي السيطرة الإيدلوجية
التي مورست على أهل الضفة بشكل ممنهج. هذه السيطرة الإيديولوجية بدأت منذ وصول
عباس إلى رأس الهرم السياسي بمشروع انتخابي يقوم أساساً على رفض أي عمل انتفاضي
مدعوماً من «حركة فتح» ومقبولاً ضمنياً من بقية فصائل العمل السياسي حتى «حماس» في
تلك اللحظة. وقد تم الترويج لهكذا مشروع باعتباره الوسيلة الفضلى للخروج من حالة
«الفلتان الأمني» بعد الانتفاضة الثانية. بعد سيطرة «حماس» على القطاع، ازداد
التفاف «حركة فتح» حول مشروع عباس نتيجة الخوف من خسارة السلطة. وازدادت التعبئة
الإيديولوجية ضد أي عمل سياسي خارج منطق «الحياة مفاوضات»، وبقي في المقابل التشدق
الإعلامي والبلاغي بممارسة المقاومة السلمية من اجل إعطاء السلطة غطاءً وطنياً
بأنها في حالة اشتباك مع الاحتلال. إلى جانب ذلك، سيطرت مفاهيم «الأمن والأمان»
و«الاستقرار» و«غياب البديل السياسي» وغيرها من المفاهيم التي توحي بالعجز عن
المواجهة والرغبة في «تحسين» حياة الفلسطيني تحت الاحتلال. أما بنيوياً فقد
استطاعت السلطة فرض نموذج البقاء من أجل الاستهلاك من خلال هيمنة أحلام الطبقة
الوسطى الاستهلاكية والاعتماد المطلق على الدخل الشهري من أجل تسديد قروض مصرفية.
إن توسّع عمليات السيطرة الاستعمارية من استيطان وقتل شبه يومي وامتهان لكرامة
الإنسان، وغياب أي رد مقنع للشعب الفلسطيني من قبل قيادة السلطة، جعل الخطاب
السياسي للسطة غير قابل للدفاع عنه في جزء كبير من قواعد «حركة فتح» أو مناصريها.
وهنا، بداية تآكل الهيمنة الإيديولوجية مع غياب دور الجسم الذي بنيت عليه صناعة
الهيمنة. إن إحدى أهم الإشارات التي يمكن استنباطها مما يحدث اليوم هو سقوط
الهيمنة الإيديولوجية لدى السلطة، بحيث لم يبقَ لها سوى مؤسسة الأمن للسيطرة من
خلالها على المجتمع. وهو أمر سيفشل بالضرورة نتيجة تآكل شرعية السلطة نفسها
يومياً. ومن المشاهدات الاولية يبدو ان هناك جيلا جديدا لم يدجن من خلال المأسسة
السياسية التي تتبع كل انتفاضة ويبدو أنه أصبح أكثر راديكالية وتسييساً بعكس ما
حاول فريق السلطة أن يقولبه (وقد تنطبق مجادلة الأجيال على الشباب الذي «تفلسطن»
مره أخرى في الداخل المحتل في العام ٤٨).
الجغرافيا الاستعمارية وبداية
الأفول
في موضع آخر، اصطلحت وزميلتي ليندا
طبر (كتاب «المقاومة الشعبية تحت الاحتلال: قراءة نقدية وتحليلة»٬ مؤسسة الدراسات
الفلسطينية، ٢٠١٤) على واقع تقسيم المجتمع الفلسطيني إلى عدة مجموعات، وتشظية
الوعي الجماعي إلى حالة مناطقية وطائفية (غزة، الضفة، القدس، أراضي ٤٨، الشتات،
البدو، الدروز) بالجغرافيا الاستعمارية. وهنا، الجغرافيا ليست فقط عملية التقسيم
المكاني وإنما التقسيم الزماني-الثقافي، وتحديداً فصل كل جماعة عن رؤية ذاتها من
خلال مجهر الهوية الوطنية الفلسطينية والتاريخ الفلسطيني في مواجهة المشروع
الاستعماري الاستيطاني. أي أن الجغرافيا الاستعمارية هي نقيض الوعي الجمعي الوطني
الذي يحتاجه أي مجتمع في مواجهة مشروع استعماري. هذا الوعي الجمعي النابع من
الذوات الفاعلة تحت الاستعمار تمت عملية تشظيته استعمارياً وساهمت هزيمة الحركة
الوطنية منذ أوسلو والانقسام في ما بعد بمأسسته. فترك الفلسطينيون في الشتات بلا
مظلة سياسية جامعةـ وتم تحويل الفلسطينيين في أراضي ٤٨ إلى «مواطنين» إسرائيليين،
واقتصار فلسطين على الأراضي المحتلة في العام 1967، هو أساس قبول الجغرافيا
الاستعمارية. خلال الأسبوعين الماضيين، صار من الواضح أن الحديث عن معازل منفصلة
سياسياً ومطلبياً غير منطقي مع توحد الممارسة النضالية في جميع المدن الفلسطينية
(من الناصرة إلى القدس حتى الخليل). هذه الممارسة النضالية الموحدة أعادت الاعتبار
للهوية الوطنية رمزياً، وما تحتاج إليه اليوم هو توحيد المشروع السياسي للعودة إلى
جذور الصراع المتمثل بالمشروع الاستعماري العنصري في فلسطين وليس تبعاته اليومية.
أي أن الممارسة النضالية هي خطوه أولى في عملية تجاوز الجغرافيا الاستعمارية التي قبلت
بها النخب السياسية. ومرة أخرى، من الأسفل إلى الأعلى، تتم عملية بناء وعي سياسي
جديد يتجاوز وعي الهزيمة وقبول المشروع الاستعماري. إن عمليات التواصل الدائم بين
الشباب والناشطين في فلسطين كلها وشبكة العلاقات الاجتماعية-السياسية القائمة
والتي تتبلور يومياً من خلال الممارسة النضالية على الأرض تشير إلى تحول هام في
الثقافة السياسية الفلسطينية ويمكن أن يبنى عليه.
عودة الفعل الجمعي
في عملية تأريخ الحراكات الاجتماعية
الثورية في الأراضي المحتلة، وصفت الانتفاضة الأولى بـ«الانتفاضة الشعبية الكبرى».
هذا الدال «شعبية» وصف مركزي لفهم دور الفعل الجماعي في مواجهة الاستعمار. في
الأعوام التي تلت الانتفاضة الثانية، ظهر مفهوم «المقاومة الشعبية» باعتباره
الطريق الذي سيجعل المشاركة الجماهيرية أكثر اتساعاً. للأسف، وخلال الأعوام
الماضية، أصبح التعبير أكبر من حقيقة الأشياء. إن ما يحدث اليوم هو في إعادة
اعتبار لمفهوم شعبية المقاومة بحيث أن الشعب هو مركز القوة الرئيس في حالات الصراع
ضد الاستعمار، وميزان القوى لا يمكن فهمه من خلال أدوات الفهم التقليدي للسياسة،
وإنما تجب إعادة الاعتبار للشعب كوسيلة وغاية في الوقت ذاته. فهو وسيلة العمل
المقاوم وهدفه. إن المظاهرات والاشتباكات مع قوات الاحتلال تعيد الاعتبار للذوات
الوطنية الفاعلة من خلال العمل البناء والمثمر وليس من خلال البلاغة الوطنية
الجوفاء التي مورست خلال السنوات الماضية. إن عودة الفعل الجمعي في الأراضي
المحتلة هو أحد أهم عناصر تآكل عمليات السيطرة الاستعمارية التي حاولت فرض نموذج
القبول والخضوع من خلال تحويل الفلسطينيين إلى ذرّات وذوات فردية مستهلكة. قد لا
تستمر الهبة التي تحدث اليوم في فلسطين طويلاً، ولكنها توضح مدى هشاشة عمليات
السيطرة التي مورست على الفلسطينيين، وتبين أن عمليات الإسكات الاستعمارية لا يمكن
أن تستمر إلى الأبد. إن بواكير الانتفاضة المقبلة بدأت تطل. إن ما تحتاج اليه
فلسطين اليوم هو عملية إعادة تنظيم المجتمع وتحديداً بنيته الاقتصادية، من أجل
إطالة أمد العمل الانتفاضي وبناء رؤية وطنية جامعة تعيد الصراع إلى جذوره.. أي المشروع
الاستعماري العنصري في فلسطين كلها.
* أستاذ الأنثربولوجيا الثقافية في
«جامعة بيرزيت»
المصدر: السفير