بين حتمية الثورة
وذكرى النكبة مخيم مُقعدٌ ينتظر الفرج..
بقلم ياسمين محمد
في ظلّ صراعات
وتخبطات الحياة يمنةً ويسرى، ومن الرغبة في التحرر من واقع مرير تجاوز الفعل وردود
الفعل، وطغى على سياق أحداثٍ تتلاعب بمخيمات اللّجوء تارةً وتارةً أخرى تقذف نفس الكرة
ولكن بإتجاه معاكس، قمتُ بزيارةِ مطولة لمخيم مُقعدٍ يجلس على كرسيّ الانتظار البائس..
"لا شيء يدعو
للتفاؤل يا ابنتي"، كانت هذه أولى الجمل التي استقبلني بها المخيم، وكان فنجان
القهوة ذا رائحةٍ غريبة اختلطت مع رائحة دماءٍ قديمة. وكلّما حدّقت بالفنجان أكثر كلّما
رأيتُ صورًا لأطفالٍ دموعها تتحدث عنها، وكأنني بدأتُ أسمع صراخًا مدويًا يذكّرني بأصوات
القنابل الليلية أو زخّات الرصاص التي ما فتئت تقضّ مضاجع النيام، وتخيف الطفل الرضيع..
إستوقفني منظر
ذلك الفنجان وأنا لا أزال أشاهد فيه صور البيوت المتلاصقة وزينة المحال التجارية في
سوق المخيم، وزخم الباعة كلٌّ ينادي على بضاعته، وطوابير الانتظار في العيادات، وأصوات
تلاميذ يتعاركون خارج أسوار المدرسه ساعة الانصراف، وصوت النّسوة يتقاتلن ويقذفن الشتائم
بسبب أو بلا سبب، لربما يلعنون واقعًا أو رجلاً أو زوجًا يغادر منذ الصباح ليعود في
المساء مثقلاً بالهموم، يشهر سيف الإفلاس في وجه عائلته رغمًا عنه!
لكنّ الزوجة والأبناء
ما اقتنعوا بفكرة أن يخرج من الصباح حتى المساء ليعود وجيوبه فارغةً إلاّ من الفتات
القليل، وكأنّهم يخدعون أنفسهم ويوهمون أحلامهم بأنّها جزءٌ من ذلك الحلم الذي يشاهدونه
ليلاً على التلفاز في مسلسل حلقاته وأحداثه أطول منه، ولربما ليس له نهاية وإن وُجدت
هذه النهاية ستكون من صنع مخيّلتهم لأنهم أصبحوا هم أصحاب المسلسل..
ولعله يُترجم حلم
شابٍ يسهر مع أحلام اللّيل ويغوص في قنوات التلفاز لينسى إفلاسه وبطالته.لم أستطع احتساء
تلك القهوة، وكلّما هممتُ بالاقتراب من الفنجان، وجدتُ نفسي غارقةً أكثر وأكثر، وحولي
الكثير من الحقائب، لكلّ حقيبةٍ لونٌ وشكل، وحتى إن تشابهت الأشكال والألوان، يبقى
لكل حقيبةٍ منها حكايةً تروي أحداثًا فيها الغدر والألم وفقدان الأحبة، واقتتال الإخوة..
يأخذني الحنين
إلى زواريب مخيمي، أركض فيها أو أمشي أو أقف وأحدّق في بيوتٍ صغيرة متلاصقة غطّت صورتها
الحقيقية حبال غسيلٍ منتشرةٍ هنا وهناك، وألوانًا من الثياب بعضها بالي وقديم، والقليل
منها جديد.
في تلك الزواريب
أذكر طفولتي يوم كنت أسلكها كثيرًا ذهابًا وإيابًا من منزلي إلى منزل جدتي. في كلّ
يومٍ كنت أسلك زاروبة مختلفة تركتُ بصماتي على حيطانها.
وها أنا الآن أحدّق
في تلك الحيطان وأفتّش عن ذكرياتي، لكنّي لا أجد مجالاً حتى للذكريات وأنا أركض تحت
مطر الرصاص من حيّ إلى آخر، وأتساءل هل أفرح لزفّة العرس تلك وأنسى أحزاني وهمومي،
أم أرقص طربًا مع زخات رصاص الابتهاج تلك؟!
أعود لفنجاني من
جديد وأشدّ عليه بيدين مرتجفتين وخائفتين.. واعدةً أن أستأذن مخيّمي بالبحث عن معالجٍ
فيزيائيّ ليقدّم له العون، فقد أضحى المخيم مع تلك النكبات المتلاحقة قعيدًا لا أنيس
له سوى مفتاح العودة!