بين مخيم جنين ومخيم اليرموك
تعليقا على فيلم 'يرموك' للمخرج محمد
البكري
بقلم: غادة خليل
من المحزن جدا أن يكون مخرج فيلم
‘جنين جنين’ هو ذاته مخرج فيلم ‘يرموك’ ولنلاحظ هنا ابتداء دلالة حذف أل التعريف
من اسم المخيم وكيف تتسق مع الإهداء إلى الأمة العربية’ وكأنه يلقي باللائمة على
الأمة العربية في رمي المخيم وتركه تحت غائلة الجوع فهم الذين ‘رموك’ ولم يسألوا
بك إلا من ناحية نهش لحمك
حيا .. وكأن مخيم اليرموك هنا يعني
كارثة طبيعية كالزلازل او المجاعات التي تلم ببلاد كثيرة وتستدعي التضامن الإنساني
على أوسع نطاق.. وكأن المخيم لا يعاني حصارا مقصودا من أطراف معروفة ومحددة لأهل
المخيم والقاصي والداني ..
فما الحاجة إلى التعبير الفضفاض
وتحميل المسؤولية إلى جهة اعتبارية ‘ الأمة العربية ‘ وليس إلى المجرمين
الحقيقيين؟
في العمل الفني لا شيء يكون عبثيا أو
دونما رسالة مقصودة واعية أو غير واعية، ومجرد اختيار حالة ما لإلقاء الضوء عليها
هو موقف، حتى لو كانت الحالة تصف واقعا، وكذلك الأمر فإن تجاهل آلاف الوقائع
والأحداث التي تحمل دلالة معاكسة هو موقف أيضا، فما الذي أراده مخرج الفيلم؟ لفت
الانتباه إلى معاناة أهلنا في
مخيم اليرموك؟ حشد الدعم لهم؟ نقل
المأساة المروعـــة التي يعيشون تفاصيلها دون انتباه من العالم اللاهي؟ وهل أعيته
تفاصيل المعاناة اليومية لأهل اليرموك ليختلق قصة مكرورة سبق وأن أنتجت حولها
أفلام تتاجر بالألم السوري؟ وماالإحساس الذي تخلفه هذه القصة سوى الاحتقار
والإدانة لمن يرضى بيع نفسه تحت أي مسمى؟ فهل هذا مسعى الفيلم؟ المشاهِد هنا
سيحتقر الأب الذي باع ولن يلتفت
للدمعة التي فرت من عينه حين سلم
بنته للقواد، والتي أطال المخرج التركيز عليها، وسيحتقر الخليجي بسيارته المرسيدس
وأمواله الآثمة وسيتساءل عن حالة الحصار هذه التي يسهل فيها عقد الصفقات والبيع
والشراء مع توفر التفاح والموز، في إشارة واضحة لأموال الخليج وقطر تحديدا وكأن
الفلسطيني- السوري قد
باع روحه وموقفه للمال الخليجي
وتماهى مع الموقف الخليجي وهذا يدحضه واقع الحال.
المحزن في الفيلم أنه يقدم رواية
النظام ويختار أسوأ سيناريو لها، فالشخصية المتخاذلة جاءت للتعبير عن العائلة
الفلسطينية التقليدية التي تعيش في مخيم اليرموك والمال الخليجي قادر على الوصول
إلى عمق المخيم وشراء الناس والإنسان الواقع بين نيران النظام وأهواء تجار الحروب
باع نفسه للشيطان وهكذا فإن اختيار الشخصيات يقول كل شيء عن مقصد الفيلم لنقارن
مثلا بين الشخصيات التي تم اختيارها في فيلم ‘جنين جنين’ الرجل العجوز السبعيني
والفتاة المماثلة في العمر لفتاة مخيم اليرموك – ونحن نتحدث هنا عن المجتمع نفسه
والثقافة نفسها – من أين كانت تتدفق هذه الطاقة المتحدية والنظرات الشامخة
المشحونة بالتصميم رغم حزنها ورغم كل آلة التدمير المحيطة بها ؟ وما الرسالة التي
أوصلتها ؟ وهل يمكن شراء بشر بهذه المواصفات أو بيعهم؟ هنا كانت الرسالة مختلفة،
وترى لو أن كاميرا المخرج دارت في مخيم اليرموك في تصوير مباشر لشخصيات حية من
المخيم، هل كانت ستصور ما يشبه مخيم جنين وصموده؟ وهل كانت ستجد ما تصوره لفيلم
محبوك في اتجاه معين؟
يقول المخرج إنه يقف مع الشعب السوري
في محنته وهذا جيد، ولكن الكلام وحده لا يكفي، فالفيلم لا يعكس هذا ولا ينقل
الحقيقة. فهل المشكلة في مخيم اليرموك مثلا أن العائلات بدأت تبيع بناتها للحصول
على الخبز والتفاح والموز؟ ( لاحظوا الموز) ! وهل أصوات القذائف والطائرات هي
موسيقى تصويرية من خارج المشهد؟ إذ لم نشهد لقطة للدمار والقتل الذي أحدثته طوال
شهور، ولم تمنع التنقل بالسيارة (لم لم يبع الأب سيارته بدلا من ابنته؟!) وإتمام
الصفقة . وأين موقع من استشهدوا جوعا في مخيم اليرموك وعائلاتهم من ذاكرة المخرج؟
وكيف نفسر موقف الاستكانة الذليلة الذي تواطأ عليه الجميع : الأب والأم والبنت
وأختها بل والأطفال الذين هجموا على ما في الأكياس دون سؤال عن أختهم التي
اختفت من البيت .. وكيف نبرئ مقاصد
المخرج حين نقارن ذلك بالعنفوان الطالع من شخصيات فيلم ‘ جنين جنين’ وهي شخصيات
حقيقية- لا مجرد شخصيات تؤدي دورا تلخص بحرارتها وحزنها وصدقها روح الإنسان الحقة
النبيلة حين يتعرض للاعتداء الوحشي
ولا سلاح له سوى إرادته وكرامته.
من بين كل ما تعرض له الشعب السوري
طوال ثلاث سنوات ومن بين كل التضحيات التي قدمها والشجاعة الأسطورية التي سطعت بها
روحه والآلام التي يكتوي بها، لم يجد مخرج ‘جنين جنين’ سوى هذه القصة عن أب من
مخيم اليرموك يبيع ابنته لخليجي،
ليعبر عن تعاطفه مع الشعب السوري،
وإذا اعتذر المخرج بأن هذا العمل غير تام ولم يكتمل بعد ولا تجوز محاكمته كما
هوعليه، فأنا كمشاهدة لم أر العمل ناقصا من ناحية الإخراج أو الإنتاج فهو قصة
متكاملة بنهاية واضحة- وإنما وجدته ناقصا من ناحية الحقيقة ومن الناحية الأخلاقية
التي يتحمل المخرج مسؤوليتها بالكامل.