بيني وبين بيروت منديل عنّابي
بقلم: تغريد عطاالله
بالأمس، سافر منديل عنّابي اللون وحده إلى بيروت. المنديل منديلي، لنعومته، كنت ألفّه طوال الوقت، صيفاً شتاءً، حول معصمي. الآن تركته يُسافر كهدية في حقيبة صديقتي، وبقيت دونه. وبما ان الغربة تفعل الكثير، لم أشعر بعظم قيمته عندي إلا بعد رحيله. أحسست كأنّه جزء اقتطع مني. سأبوح: كان حانياً ، لنعومة ملمسه، لطالما شددته بقوة حول معصمي كلّما اجتاحني حنين قاسٍ لأشياء أو أحبّاء افتقدتهم. ثم قررت انني ولكي أنساه، سأبدأ منذ اليوم علاقة دفء جديدة مع منديل جديد..
عزائي الوحيد في منديلي المغترب: أنّه أصبح قاسما مشتركا بيني وبين المدينة التي لطالما أحببتها. اجلس واحلم: هناك سيهرب منديلي من حقيبة صديقتي ليتنفس هواء بيروت العابق بشتّى عطور الفن والأدب، تدهشه اعلانات أفلام السينما الحديثة، وتسلب لبّه أصداء الحفلات الموسيقية. شيء لم نعد نعرفه في غزة. وفي قلب صيدا سيلتقي بأعمامي النازحين الى هناك، يتأمل وجوههم الشبيهة بملامح والدي، يبتسم لهم بعيون أبي المشتاقة، وربما يرتشف القهوة برفقة أولاد وبنات أعمامي. سيجوب شوارعها شارعاً شارعاً، سيطلّ من نوافذ وبلكونات بيوتها، وبالطبع لن يفوّت فرصة لقاء أصدقائي اللبنانيين الفايسبوكيين. معهم سيستمتع بصدمة الواقع ويتجاوزها سريعاً، ليلتقي الآخرين واحداً واحداً، يتأمّل ملامحهم، ابتساماتهم، بحلقة أعينهم، ليتأكد من حقيقتهم البشرية، تماماً كما لو كانت ستفعل أناملي لو التقتهم يوما ما، يستذكر حديث جميع الأصدقاء المولعين بالمدينة الحمراء «ليتك تزورين بيروت، إنها مدينة الحياة «، راكضاً في أزقتها من جنب إلى جنب كي يتأكد من حقيقة ذلك المقال، يتأمّل طويلاً وجوه نسائها الجميلات، وذوات القوام، يستمع لنكاتهم اللاذعة، نقدهم وقدحهم الحارق، في الوقت ذاته أسلوبهم الرقيق، وكأنّه جزء من تركيبة شخصيته فلا يكتملون بغيره. حتى أنّه سيتبنى كل من أحبهم، يتهجأ بلهجتهم، ويتأثّر بطباعهم. الجميع يقولون: جمال لبنان يكمن في عشق ساكنيه للحياة: يعملون بجد في النهار، وبملء جيوبهم وأحلامهم يسهرون لياليهم الملاح، فجأة تقفز من رأسه نصيحة قالها صديق لي: احذري أن تجرّك بيروت إلى حيث لا عودة. لكنّه يحلم مثلي باللاعودة، فينسى كل التحذيرات، ويترك نفسه لغواياتها، فربما يحقق الكثير من رغباتي المختنقة، حتى بت أظنّه اشارة تنبئني بزيارتي تلك البلاد في القريب العاجل، سأتعزّى بكل هذا، وكلّما أخذني الحنين لدفء منديلي، زرت محل القماش القريب من بيتي، لأتحسس لفافات القماش الناعمة بأناملي وشعوري، فتهدأ روحي قليلاً.
المصدر: الأخبار