تحرير
الخلاف في قصة عساف
بقلم:
أحمد أبورتيمة
كان
يفترض ألا تحدث قصة الفنان محمد عساف كل هذه الضجة، وكان ينبغي أن تظل في إطارها
الطبيعي متمثلةً في قصة شاب موهوب تغلب على ظروفه الصعبة واختار وجهته الخاصة في
هذه الحياة وحقق في ذلك نجاحاً سواءً اتفقنا معه أو اختلفنا فالناس أحرار في
اختياراتهم، لكن ما أضفى على قصة محمد كل هذا الجدل هو خصوصية واقع قطاع غزة
السياسية والاجتماعية لذا كان لا بد من وضع النقاط على الحروف:
أولاً
لست مختلفاً مع الذين يعارضون برنامج عرب آيدول فهو برنامج فيه كثير من مظاهر
الفساد والهبوط الأخلاقي مما يتناقض مع ديننا وتقاليدنا عدا أنه وسيلة لاستنزاف
جيوب الناس وجني الأرباح الطائلة منهم، لذا سيكون حديثي عن ظاهرة محمد عساف وليس
عن البرنامج أو الوسط الفني الذي كان يحيط به.
لم يكن
البرنامج ذاته هو ما دفع الجمهور الفلسطيني للمتابعة إنما الرغبة في فوز ابن بلدهم
ورفع اسم فلسطين، كما أن مظاهر التبرج والسفور المنكرة التي تضمنها البرنامج ليست
هي القضية الأساسية التي ينبغي أن يتركز حديثنا حولها، فإن كان هناك من يبحث عن
الانحلال الأخلاقي فسيجد طرقاً أقصر لتحقيق مآربه من أن يتعمد مشاهدة مثل هذا
البرنامج.
من حقنا
ألا نرضى عن اهتمام الناس بمثل هذا البرنامج، ومن حقنا أن تكون لنا رؤيتنا وطريقة
حياتنا الخاصة التي نسعى لنشرها في المجتمع، لكن ليس لنا أن نلوم الناس حين تأتي
اهتماماتهم مخالفةً لتوقعاتنا، فالناس أحرار في تحديد أولوياتهم، وحين نفشل في
تعميم رؤانا فإن علينا أن نراجع أنفسنا وأفكارنا ووسائلنا وأن نتساءل لماذا لم
ننجح في جذب الناس إلينا على النحو الذي نجحت فيه قضايا أخرى لا أن نهاجم الناس
ونتهمهم بالتفاهة..
أثبت
اهتمام الناس بقضية عساف أن المجتمع أكبر من أي جماعة، وأنه عصي على الاحتواء، وأن
تنوع الألوان والاهتمامات هو حالة طبيعية داخل المجتمع، ولا يحق لأحد أن يمارس
الإقصاء ضد غيره، إنما علينا أن نبدع وسائل أكثر مرونةً في التعامل مع الناس تراعي
تنوع مشاربهم واهتماماتهم.
أثبت
خروج الناس العفوي إلى الشوارع عقب إعلان فوز عساف أن الناس تبحث عن الفرح، ونفس
الذين فرحوا بهذا الفوز هم الذين فرحوا بانتصار حجارة السجيل وفرحوا بفوز مرسي وهم
أنفسهم الذين يخرجون للاحتفال بفوز فريقهم المفضل في كرة القدم، إذاً فالناس تبحث
عن صناعة الفرح بغض النظر عن التفاصيل، ودلالة ذلك أن الناس تبحث عن متنفس ولا
تطيق البقاء في حالة شحن متواصل، وخطاب العزيمة الذي يدعو إلى الصبر والتضحية على
أهميته لا يكفي وحده إن لم يعزز بخطاب رخصة يبث الفرح والابتهاج في نفوس الناس.
علينا
ألا نضيق بفرح الناس فنثبت بذلك دعاية أعدائنا بأننا ظلاميون كارهون للحياة لا
نفهم سوى الموت والقتل، ففرح الناس ينبغي أن يفرحنا لأنهم أهلنا، بل علينا أن
نعززه لأنه يقوي صمودهم، وليس صحيحاً أن الناس تفرح بالمعاصي فمنبع فرح الجماهير
هو أن اسم فلسطين انتصر، وأن ابناً لهم رفع ذكر بلدهم..
هناك خلط
غير مبرر بين قضية فنية صرفة وبين قضايانا الوطنية الكبرى فتجد من يقول: كيف
تفرحون والأسرى يعانون، والقدس محتلة، أو من يحلو له المقارنة بين محمد عساف وسامر
العيساوي، وهذا النمط من الخطاب ممل لم يعد يقنع أحداً، كما أنه عدائي للحياة،
فالوطنية لا تفرض على صاحبها أن يعيش حياته في هم وحزن دائمين، ونفس الذين ينتقدون
فرحة الناس يقضون بعض أوقاتهم في الفرح والضحك، فلو عاملناهم بنفس منطقهم لاعتبرنا
أن أي فرح لهم هو خيانة لقضايا الأمة والوطن..
كشفت
متابعة الجمهور العربي والفلسطيني لهذا البرنامج أن هناك جماهير عريضة من الشعوب
العربية لا تزال خارج التغطية لم تنجح الحركة الإسلامية بعد في الوصول إليهم
ومراعاة اهتماماتهم، وهذا ينبهنا إلى ضرورة أن نكسر الشرنقة العازلة بيننا وبين
هذه الكتلة الجماهيرية الضخمة التي ستحدد مصير الأمة وأن نصل إليهم باللغة البسيطة
والعفوية المباشرة التي يفهمونها بعيداً عن الخطاب التقليدي والوسائل النمطية التي
أخفقت في إقناعهم..
لقد
نبهتنا قضية محمد عساف إلى قصور الفكر التنظيمي والحاجة إلى فكر جماهيري أوسع،
الفكر الجماهيري ينظر دائماً إلى جوانب الاتفاق ويراعي فردية الناس واختلافاتهم،
وإذا طبقنا الفكر الجماهيري على حالة محمد عساف فليس مطلوباً منه أن يخضع
لمقاييسنا بشكل كامل حتى نرضى عنه، إنما يكفي أن تكون هناك نقطة التقاء واحدة للاستفادة
منها، فمحمد عساف لم يصنع موهبته ابتداءً داخل إحدى الأطر التنظيمية إنما فرض نفسه
على الساحة بجهده الذاتي، لذا فإن الاختيار اليوم ليس بين الأسود والأبيض إنما بين
كمية اقترابه أو ابتعاده منا، وكلما نجحنا في مد الجسور أكثر مع أمثال هؤلاء كلما
كانت فرصة توجيه مواهبهم وقدراتهم في اتجاهات وطنية أكبر..
إذا كانت
إسرائيل تحرص على مد الجسور مع كبار الفنانين والشخصيات المؤثرة عبر العالم قاصدةً
بذلك أن تصل من خلالهم إلى جمهورهم وأن تقنع ذلك الجمهور بروايتها، فهل يعقل أن
نتجاهل نحن أصحاب القضية العادلة مثل هؤلاء الأشخاص المؤثرين خاصةً وأنهم يحملون
بذور خير وفيهم روح وطنية يمكن استثارتها وتعزيزها بما يحقق النفع لقضيتنا الوطنية