ترامب والموضوع الفلسطيني.. أيّ مسار؟
بقلم: أسامة عثمان
مع أن القرار في أميركا يخضع لمؤسسات وإجراءات
بيروقراطية، مصونة بتقاليد ديمقراطية ودستورية، لا تسمح بالتفرُّد بالقرار، حتى للرئيس
نفسه، إلا أنه يبقى للرئيس هامشه الذي يتأثر برؤيته الخاصة، إن كان صاحب رؤية، كما
يبقى للطاقم الذي يختاره أثره، ولمسته.
ولا يغيب عن البال الطابع الأكثر عدائيةً
الذي طغى على أميركا، في عهد بوش الابن والمحافظين الجدد. ولم يكن لدونالد لترامب أن
يفوز مخالفاً التوقعات، لولا الحالة الشعبية في أوساط الأميركيين البيض الذين نجح هذا
الرئيس الإشكالي في التجاوب مع إحساسهم بغُبنٍ ما، بعد فترتين رئاسيتين لرئيسٍ من أصل
إفريقي، من أبٍ مسلم، ولأسباب أخرى، بالطبع.
إسرائيلياً، لم تكن الآراء مجمعةً، أو متيقنة
من تفضيل المرشَّح الجمهوري، ترامب، على منافسته الديمقراطية، هيلاري كلينتون، ولكن
نتنياهو صرَّح، بعد إعلان النتيجة، إن ترامب صديق حقيقي لإسرائيل، وربما حمل ذلك تعريضاً
بدرجة صداقة سلفه، باراك أوباما، لها، من وجهة نظر نتنياهو الذي لم تَخْفَ توترات علاقته
بالرئيس الذي بدأ ولايتَه الأولى بمواقف أمّلت قسماً ليس ضئيلاً من العرب والفلسطينيين
بتغيُّر إيجابي في الخطاب الأميركي، تجاه حقوق الفلسطينيين المُضيَّعة.
ثم سار أوباما في خطواتٍ محدَّدةٍ نحو تهيئة
ظروف أقرب إلى عمليةٍ سياسيةٍ أكثر معقوليةً، وفق المؤمنين بها، وذلك بالإصرار على
ضرورة تجميد الاستيطان، والتأكيد على ضرورة إنهاء الاحتلال الإسرائيلي، وإقامة دولة
خاصة بالفلسطينيين، قبل أن يتراجع عن ذلك أمام عناد نتنياهو، وتملُّصاته.
من المواقف التي تمثل علامات بارزة، أو
فارقة، في توجُّهات ترامب تجاه فلسطين، أنه لا يرى، وفق مستشاره الخاص للشؤون الإسرائيلية،
جايسون غرينبلات، في المستوطنات عقبةً في طريق السلام، والمعدودة مخالفةً للقانون الدولي،
وهو خلاف الرؤية الأميركية التي تدرَّجت، عبر عقود، للانتهاء إلى هذا الموقف الأقرب
إلى اللفظي؛ لأنه لا يُلحَظ الأخذ به على الصعيد الفعلي، إلا بخطوطٍ خفيفةٍ للمدقِّقين،
فلا يرى الإسرائيلي العادي أنَّ ضرراً يقع على مكانة "إسرائيل"؛ بسبب تعنُّت
نتنياهو، أو تحدِّيه العلني، والفعلي للمَطالب الأميركية العلنية، ليجعله ذلك يتراجع،
أو يتردَّد في قيادة موكب اليمين الإسرائيلي الذي يزاود عليه، أحيانا.
ثم الموقف الثاني الذي يجد بعض تشكيكٍ في
جدية تنفيذه، إسرائيلياً، وهو نقل السفارة الأميركية إلى القدس؛ لأن جميع مرشَّحي الرئاسة،
باستثناء هيلاري كلينتون، وعدوا بنقل السفارة إلى القدس، لكنهم لم ينفِّذوا ذلك؛ بدعوى
أن التأجيل يخدم مصلحة الأمن الأميركي، فالإدارات الأميركية المتعاقبة دأبت على تأجيل
تنفيذ قرار الكونغرس الصادر قبل 21 عاماً، والقاضي بإلزام الإدارة الأميركية بنقل السفارة
إلى القدس.
أما الموقف الثالث لترامب، وهو المتماشي
مع السياسة الأميركية، فهو تأكيده على أن المفاوضات المباشرة (وليس الخطوات التي تصفها
أميركا أحادية، من قبيل اللجوء إلى المحافل الدولية والمحاكم الدولية) هي الطريق الوحيد
لأيِّ حلول سياسية، وهو الموقف نفسه الذي تتغطَّى به "إسرائيل" وحكومة نتنياهو
للإمعان في سياستها الاحتلالية التي يحظى الاستيطان وتهويد القدس بالأولوية الحيوية
والمتسارعة فيها.
أما عن الدعم المالي والعسكري، فلم يكن
أوباما ضنيناً به على "إسرائيل"/ الدولة، فقد كانت الصفقة التي قدمتها إدارة
أوباما، في الأشهر القليلة الأخيرة من ولايته، غير مسبوقة في إثبات الحرص الأميركي
و(الديمقراطي/ حزب أوباما) التاريخي والاستراتيجي لاستبقاء التفوُّق النوعي الإسرائيلي
في المنطقة والإقليم، وهو الأمر الذي صرَّحت به لجنةُ الشؤون العامة الأميركية الإسرائيلية
(إيباك) إن الصفقة سترسل رسالة ردع قوية إلى أعداء "إسرائيل".
من المعروف أن الرئيس الأميركي ليس مطلق
اليد في تقرير السياسة الأميركية، وبالذات في قضايا السياسة الخارجية، ولا سيما حين
يطمح إلى إحداث منعطفاتٍ قد تربك الخطط الأميركية بعيدة المدى، وإذا تذكَّرنا مُحدِّداتٍ
إضافيةً لهذا الرئيس العتيد، فإن عاملين قد يحملانه على عقلنة نهجه، الأول أنه لم يكن
المرشَّح الرسمي للحزب الجمهوري، بل فرض نفسه عليه مرشحاً جدلياً، ومثيراً للانشقاقات،
حتى التبرّؤ المسبق منه، من شخصياتٍ مرموقةٍ في الحزب، وهو محتاجٌ بالتأكيد إلى دعم
حزبه في مجلسي النواب والشيوخ اللذين سيطرت عليهما أغلبيةٌ جمهورية.
والأمر الثاني الذي قد لا يقلُّ تأثيراً
عن الأول، أو يتداخل معه، هو تواضع خبرة ترامب السياسية، لا سيما في التعاطي مع القضايا
الشائكة في السياسة الخارجية، وهو بالمناسبة يبدو أكثر اهتماما بالقضايا الداخلية،
كإلغاء برنامج أوباما لإصلاح الرعاية الصحية، (وحتى هنا بدا ترامب بعد فوزه، قابلاً
للتراجع أو التعديل) والموقف المناهض من المهاجرين، وربما هذا يشي بميله، بدرجةٍ ما،
إلى الانعزالية السياسية، وهو الاتجاه غير المتعارض، بل المنسجم مع منطلقاته غير البعيدة
عن العنصرية والفاشية.
ولذلك، لعل المرجَّح أن يترك ترامب، في
تماشٍ أكثر سفوراً مع "إسرائيل" الأكثر يمينية، القضيةَ الفلسطينية تؤول،
بمسارها الحالي، نحو مآلها المراد إسرائيليا وأميركيا، على نحو عملي، من دون أن تضاف
إلى ذلك، بالضرورة، خطواتٌ دراماتيكية نحو العدائية والاستفزاز. ولكن، بمزيدٍ من الحماية
السافرة لإسرائيل سياسياً وإعلامياً، وفي المحافل الدولية والقانونية.
وعلى الصعيد الفلسطيني، لا مناص من استمرار
دعم السلطة سياسيا وماليا وسياسيا، بشكل مباشر، أو غير مباشر، إلى الحدِّ الذي يكفل
بقاءها مشروعاً رعته أميركا، وَفق مواصفاتٍ تحرص "إسرائيل" نفسُها على استمرارها؛
لضمان قدر ضروري من (الاستقرار)، وليس خاصا فقط بحدود الضفة الغربية، أو غزة، بل من
الممكن أن يتهدّد (الاستقرار) في فلسطين المحتلة عام 48، كما في دول الجوار العربي،
ولا سيما الأردن، حيث التوزُّع الفلسطيني الأكبر، وحيث تهتم "إسرائيل" بتماسك
هذا الحدّ الأردني المانع من تسرُّب، أو تدفُّق العناصر المعادية من خلفياتٍ إسلاميةٍ
جهادية، في منطقة ضعفت فيها قوةُ الدولة المركزية، ولم تعد الحدود بين المناطق المشتعلة
منيعة.
تتعزّز هذه الخشية من الانفجار، تحت قيادة
نتنياهو الذي لا يعتزم تقديم جديد للفلسطينيين، ويقلق الجميع في دوائر صنع القرار الاحتلالي،
مدى (صمود) الأوضاع الحالية، مع استمرار الانسداد السياسي اليائس، مصحوباً بارتفاع
وتيرة الآلة الاحتلالية الشاملة.
وبقاء السلطة هكذا من دون السماح لها بكبح
التوسُّع الحثيث نحو مشاريع احتلالية معلنة، تتعلق بالاستيطان وتهويد القدس، وفق ما
يسمى مشروع القدس الكبرى لا يضرُّ "إسرائيل"، بل يفيدها، ليس فقط داخل فلسطين،
بل أيضاً، وفق ما صرَّح نتنياهو، في المنطقة العربية، حيث السلام مع عدة دول عربية،
لم يعد متوقفا على السلام مع الفلسطينيين، بل العكس.
ولكن هذا المضيّ في مفردات السلام مع دول
عربية لن يكون سهلاً، كما هو الآن، في حال تعرَّض مشروع السلام (المُعلّق) مع الفلسطينيين
إلى ضربةٍ قاتلةٍ.
المصدر: المركز الفلسطيني للإعلام