تصريح بلفور صناعة
قوى استعمارية ج(1)
بقلم: ظاهر صالح
يصف كثير من المهتمين
بالأحداث العالمية والمطلعين على حقيقتها بأنها حلقات في الصراع العالمي القائم حاليًا،
كاشفين أن الهدف الذي يدور الصراع من أجله هو السيطرة على التفكير الإنساني وإبعاده
عن الحقائق التاريخية التي كرّس كثير من الباحثين والمؤرخين حياتهم للوصول إليها.
على أن هذا التحليل
لا يُمثل على واقعه وصحته سوى نصف الحقيقة، أما الحقيقة الكاملة فهي خفيّة عن أعين
الشعوب ومفصولة عنهم بحواجز من الدعايات والأكاذيب المقصودة والمغالطات المدسوسة، ولا
ريب في أن الجهل بالتصف الأساسي من الحقيقة يُمثل أو يفوق بخطره الجهل الكامل بالحقيقة
وعدم الاهتمام بها.
ولعل فيما قاله
أحد مشاهير الفلاسفة – شيشرون – "إن عدم معرفة ما جرى في الأزمنة السابقة يعني أن تظل
طفلًا دائمًا”.
لعل في ذلك القول
ما يدفع الإنسان إلى معرفة أحداث الماضي، ومعرفة الأساليب التي استخدمت في تحريك حوادثه
التاريخية وأهمية قراءتها، بل الدخول لأعماق النصوص بخطى واثقة من خلال التركيز على
الإدراك التام للمفاهيم والمصطلحات والدلالات الكلامية وغيرها الواردة في سياق التصوص
وربط الأحداث بأشخاصها وزمانها ومكانها.
وربما كان ذلك
هو الدافع لحماسي للنهوض والحديث عن ذكرى مئوية تصريح بلفور، وكيف كانت هناك تصريحات
بلفورية متعددة بدأت من قبل الإعلان عنه بعشرات السنين، وكيف يسمى "وعد”؟ ومن ذا الذي
يعطي مُلك وحق غيره لمن لايستحق؟ وهذا ما يجعلنا نتساءل: هل تلك الأحداث التاريخية
ليست إلا نتيجة طبيعية لتبدل ونضج ظروف اجتماعية واقتصادية وسياسية؟ أم هناك دورًا
فاعلًا ومؤثرًا لأفراد وجماعات في خلق تلك الأحداث وتنفيذ ما كان يُخطط له؟ بمعنى آخر
.. هل كان لتلك الأحداث أن تتحقق لو أن أشخاصًا أساسيبن لم يكونوا في مشهد ومسرح الأحداث؟
أو على الأقل هل كانت ستحدث بالطريقة نفسها؟
إن كل هذه التساؤلات
لا يمكن التعاطي معها وفق قراءة عابرة سطحية، دون منهجية تفصيلية علمية يمكن البناء
عليها لفهم الحقيقة وتبيان الأهداف والكوامن من خلال معرفة أسباب وقوع الأحداث في الماضي،
والتي أدت إلى ما أدت إليه من نتائج. لذلك يجب إرجاع الوقائع والأحداث إلى أصلها الحقيقي
وحفظها للتاريخ والأجيال بالدلائل والبراهين وإزاحة النقاب عن وثائق مخزية صنعتها قوى
استعمارية في الخفاء وأعلنتها فيما بعد، "كتصربح بلفور .. نموذجًا” هذا المشروع الاستعماري
غير القانوني في إصداره، وغير الأخلاقي في فعله.
لهذا يجب علينا
إدراك قيمة الحقائق والتعامل معها بمنهجية من خلال استدعاء الماضي، وعبر قراءة سابرة
فاحصة للأحداث التاريخية وجزئياتها، ومن الأهمية بمكان التذكير بالإسهامات الفكرية
والتاريخية للراحل د. عبد الوهاب المسيري في كتاباته عامة، وموسوعته اليهود واليهودية
والصهيونية بخاصة، وكذلك الإشارة إلى أن كثيرًا من الباحثين والمؤرخين بذلوا جهودًا
كبيرة يدفعون ببطلان هذا التصريح.
ولعل مساهمة الإعلامية
روان الضامن في رواية قصة فلسطين إعلاميًا وسلسلتها التوثيقية الموسومة بـ"النكبة”
وحديثها عن المؤامرة على فلسطين، وكشفها عن مراحل نشاط يهود أوروبا منذ عهد نابليون،
وحتى حصولهم على تصريح بلفور، كل ذلك ساهم في كشف الحقائق التاريخية؛ لكونها تنبع وتصب
في نفس الهدف الصهيوني الاستعماري.
لقد نشأت الصهيونية
في رحم الأفكار المسيحية البروتستانتية الدينية التي تؤمن أن عودة المسيح مشروطة باستيطان
اليهود في فلسطين، وتطورت لتصبح عقيدة سياسية متلونة الافكار، فقد تبنى مجموعة من الحاخامات
القضية اليهودية منذ أواسط القرن التاسع عشر مدفوعين بموجة معاداة السامية التي اجتاحت
أوروبا في تلك المرحلة وتواصلت إلى أواسط القرن العشرين، وعملت على الاستيطان الإحلالي
العسكري بعد تصريح بلفور وإعطاء مضمون سياسي وقومي لليهودية.
ولأنه كان فاقدًا
للشرعية القانونية حرصت بريطانيا والحركة الصهيونية أن يتضمن صك الانتداب عام 1922
نص وروح التصريح وآليات تطبيقه، وأن تصادق عليه عصبة الأمم (الدول الاستعمارية الخمس
آنذاك: بريطانيا وفرنسا وإيطاليا وأمريكا واليابان)، ليصبح جزءً من منظومة القانون
الدولي، وقد سعت الدول الاستعمارية العظمى منذ تأسيس الكيان اليهودي الصهيوني أن يتم
توظيفه في خدمة المصالح الإمبريالية الغربية كافة.
المصدر: ساسة بوست