تصفية قضية
اللاجئين
بقلم: عبدالله السويجي
الموت والنزوح صفتان تتجسدان في شبح نشط يلاحق
الفلسطينيين منذ 67 عاماً، وفي كل حرب تنشب في المنطقة، إن كانت فلسطينية -
"إسرائيلية"، أو عربية عربية، يكون الضحية الأولى فيها هو الفلسطيني
النازح، أو ذاك الذي هُجّر من وطنه بالقوة، أو غادر مخيمه تحت طائلة الحاجة، وتكون
النتيجة هجرة مضاعفة، فيها من المعاناة ما لا يحتمله بشر . حتى عندما انطلق ما
سُمي زوراً ب(الربيع العربي)، ألقى بظلاله السوداء على ظروف الفلسطينيين النازحين
أو المغتربين، وكأن قدر الفلسطيني أن يدفع ثمن أي اقتتال أو نزاع أو معركة أو حرب،
تحررية كانت أو طائفية.
لقد تعرض الفلسطينيون لحروب إبادة قبل عام 1948
على يد العصابات الصهيونية، التي مارست عمليات تطهير وإبادة جماعية في عشرات
القرى، لتثبت أن فلسطين (أرض بلا شعب)، وتمخضت حرب 1967 التي سُميت ب(النكسة)
بتهجير أعداد إضافية من بيوتهم، ولاسيّما من سكان الضفة الغربية وقطاع غزة. وفي
الفترة من 1975 حتى عام ،1982 دفع الفلسطينيون ثمناً باهظاً للحرب الأهلية في
لبنان، وفي عام ،1982 العام الذي وصلت فيه الدبابات "الإسرائيلية" إلى
العاصمة اللبنانية، ودخلت العديد من أحيائها، حدثت هجرة للمقاتلين الفلسطينيين إلى
تونس والجزائر واليمن، ومن تبقى من الشعب في مخيمات بيروت تعرّض لمذابح في صبرا
وشاتيلا. وحين قام النظام العراقي بغزو الكويت في بداية عام 1990 انعكست نتائجها
سلباً على أوضاع الفلسطينيين، فقد غادر الفلسطينيون الكويت بالآلاف إلى لبنان
والأردن وسوريا بشكل خاص. وفي الربع الأخير من عام 1995 أعلن القذافي عزمه طرد
جميع الفلسطينيين، فوضع الآلاف منهم في السفن والشاحنات وطردوا خارج الحدود إلى
المجهول. وفي مقابل ذلك، وحتى تزيد الطين بلة، فرض لبنان تأشيرات دخول على حملة
وثائق السفر اللبنانية من الفلسطينيين، فعلق كثيرون في المطارات وعلى الحدود.
وبعدها بثمان سنوات، كانت في انتظار
الفلسطينيين كارثة أخرى، فحين احتل التحالف الغربي بقيادة الولايات المتحدة
الأمريكية العراق في عام ،2003 كان الفلسطيني أول من دفع الثمن، حيث غادر آلاف
الفلسطينيين العراق إما طواعية أو بالقوة من قبل ميليشيات مذهبية متطرفة. وفي عام
،2007 تحول مخيم نهر البارد في شمال لبنان إلى ركام، بعد احتلاله من قبل مسلحين
متشددين أطلقوا على أنفسهم (فتح الإسلام)، وكانت نتيجة المعركة التي خاضها الجيش
اللبناني ضدهم، أن تم تدمير المخيم وتحول إلى أطلال، ونزح سكانه إلى مخيمات أخرى
في لبنان.
ومنذ أكثر من أربع سنوات، أي مع انطلاق (الربيع
العربي) المشؤوم، والفلسطيني يدفع الثمن، وتضررت القضية الفلسطينية من جنونه
وضبابيته بشكل لم يلحظه كثيرون، وكان أكبر الضرر في سوريا، حيث تحولت المخيمات
الفلسطينية إلى ساحات قتال بين النظام والمجموعات المسلحة، ومن جهة أخرى، انعكست
على المجتمع الفلسطيني في المخيمات الذي أصيبت بعض شرائحه بالتطرف، فانضم عدد من
الشباب إلى الأحزاب المتشددة، ولاسيما في لبنان.
ومع نشوب المعارك في سوريا عام ،2011 أصبح مخيم
اليرموك ملاذاً للاجئين السوريين القادمين من الريف، ما لبث أن أصبح المخيم ساحة
قتال بين الجيش النظامي والجيش الحر، ثم أصبح فريسة لتنظيم "داعش" وجبهة
النصرة، وساعد على الكارثة انقسام المقاتلين الفلسطينيين في المخيم بين موالٍ
للنظام ومعارض له، وها هو الآن يعيش مأساته الكبرى، فالمخيم يقع في مكان
استراتيجي، ويبعد عن العاصمة دمشق نحو ثمانية كيلومترات، وتتداخل أحياؤه مع
العاصمة، واحتلاله بالكامل يهدد دمشق في الصميم، والضحية هم المدنيون الفلسطينيون،
واللاجئون السوريون الذين أصابتهم عدوى النزوح أيضاً .
المخيم الآن يتعرض للتدمير الممنهج نتيجة خطورة
وأهمية موقعه الاستراتيجي، البراميل المتفجرة تسقط على بيوته وسكانه المتبقين من
قبل طائرات النظام، والمقيمون فيه يتعرضون للقتل على يد تنظيم "داعش"
الدموي، الذي لا يفرق بين نازح ومواطن، وبين مقاتل ودموي، بل إنه دخل ومعه أسماء
مئات الأشخاص المطلوبين للذبح بتهمة الكفر أو مساعدة النظام، وتتكرر المأساة التي
بدأت منذ ثلاث سنوات، حين عانى المخيم مرّ الحصار، ومات نتيجته عشرات الأطفال
والنساء والشيوخ نتيجة الجوع والعطش.
المسألة الأكثر إيلاماً تتمثل في المعارك التي
يخوضها المسلحون الفلسطينيون لاستعادة المخيم، أو تحريره من "داعش"، أي
أن الفلسطيني يخوض معارك لتحرير مكان لجوئه، بدلاً من خوضه لمعارك لتحرير أرضه
الأم، هكذا تجري الأحداث حين تُقفل الجهات كلها، ويصبح مكان النزوح المكان الآمن
الذي يجب الموت من أجله، وتتحول معركة المخيمات إلى معركة "نضالية وجهادية
وثورية"، هكذا تم اختصار القضية الفلسطينية، وهكذا أراد لها (الربيع العربي)
أن تكون.
موقف القيادة الفلسطينية مما يجري في المخيمات،
ولاسيما مخيم اليرموك، موقف دبلوماسي، وأحياناً ضبابي، فهي ترفض أن تكون قد وافقت
على التعاون مع الجيش السوري لتحرير المخيم، ومن جهة أخرى، لم تقم بأي جهد
لاستقبال النازحين أو إيجاد ممرات آمنة لهم من مخيمهم، وتركتهم يواجهون مصيرهم
بأنفسهم.
المخيمات الفلسطينية في لبنان مزدحمة باللاجئين
الفلسطينيين والسوريين القادمين من سوريا، والتضامن الإنساني تغلّب على القرارات
السياسية والنوايا العسكرية، لكن هذه المخيمات لا تستطيع المضي في العيش الطبيعي
بنفس الوتيرة السابقة أو الحالية، ويُخشى أن تتعرض هذه المخيمات لمؤامرات تؤدي إلى
إبادة وإلى موجات من النزوح أيضاً. ولكن السؤال الذي يفرض نفسه هذه المرة: إلى أين
سينزح الفلسطيني أو السوري، ويحده من الجنوب كيان صهيوني، ومن الغرب البحر، ومن
الشرق والشمال سوريا التي تعاني الأمرين، وبين هذا وذاك، هناك من يشحن الناس
بالطائفية والمذهبية، ويحرض على افتعال المعارك.
المشكلة أن الصراع الآن يأخذ طابعاً مذهبياً
ودينياً في ظاهره، وهذا التوجه لا يعترف بالوطنية أو القومية، ولا ينظر بعين
الاعتبار إلى مجموعة سكانية وبشرية على أنها مجموعة لاجئة، لا ناقة لها ولا جمل في
هذه الصراعات والمتاجرات، وتجد نفسها بين فكين شرسين، فك القطط السمان وفك التطرف،
ومن الصعب طرح فكرة تحييد المخيمات الفلسطينية عن الصراعات والاقتتال، إذ لا أحد
ينظر إليها نظرة وطنية، ويبدو أنه لا أحد ينظر إليها نظرة إنسانية، فهل قطعت مرحلة
تصفية قضية اللاجئين الفلسطينيين أشواطاً واسعة؟
المصدر: الخليج