تعويذة بلفور..
وفك الطلاسم فلسطينيا
ماهر حجازي *
على غير العادة،
وكأن لعنة ذاك المقبور وتعويذته الشريرة تطاردهم إلى اليوم لكنها هذه المرة أشد وقعا
عليهم، هم سفراء وقناصلة وموظفو السفارات البريطانية حول العالم الذين باغتتهم جحافل
الفلسطينيين ومناصرو أعدل قضية في الدنيا في ذكرى مئوية تصريح بلفور في الثاني من
(نوفمبر/تشرين الثاني) الماضي. بعد 100 عام على تعويذة بلفور الشريرة التي كُتبت بدماء
الفلسطينيين لصالح اليهود الصهاينة، هذه التعويذة التي لا يزال الشعب الفلسطيني يتجرّع
سحرها القاتل إلى اليوم، ويتنعّم الاحتلال الصهيوني في ظلها.
لكن الفلسطيني
لم ييأس رغم مرور مئة عام، ظل متمسكا بحقه في الأرض والعودة، واستعد لمواجهة جديدة
مع الاحتلال ومن يقف خلفه، وفعلا شكّلت الجهود الفلسطينية هذا العام في مواجهة الاحتفالات
الصهيونية بتصريح بلفور عملا وطنيا فلسطينيا بامتياز ونموذجا يُحتذى به لقيادة العمل
الفلسطيني في مواجهة الاحتلال الصهيوني.
أثبتت التجربة
التي أعلن عنها المؤتمر الشعبي لفلسطينيي الخارج بحملة "بلفور مئوية مشروع استعماري"
أن الفلسطيني في الخارج يحتاج مَن يوجّه طاقاته وإمكانياته ويعزز لديه الانتماء إلى
فلسطين ويفجّر الهوية الوطنية الكامنة بداخله لتكون نارا وبارودا على الاحتلال ومشاريعه
التصفوية لقضية فلسطين.
حجم الاستقطاب
والتفاعل الكبير مع حملة مئوية بلفور والمشاركة الواسعة للمؤسسات الفلسطينية وأبناء
الجاليات الفلسطينية في العالم وكل مَن يدعم فلسطين عربيا ودوليا ويؤمن بعدالة الحق
الفلسطيني، وتحديدا هذا العام 2017، يعزز الإيمان بضرورة العمل الجماعي الفلسطيني الوطني
في مواجهة التمدد الصهيوني على حساب القضية الفلسطينية، وهذا العمل الذي سيكون عاملا
رئيسا في تراجع حضور الاحتلال عالميا وتقليص الدعم له خصوصا على المستوى الشعبي.
حيث جاءت معظم
الفعاليات الفلسطينية في مختلف الدول والتي أحيت الذكرى المئة لتصريح بلفور في إطار
حملة بلفور، وتنوّعت من الاعتصامات أمام السفارات البريطانية حول العالم ومطالبة بريطانيا
بالاعتذار عن تصريح بلفور وتَحمُّل المسؤولية التاريخية والسياسية والأخلاقية عن هذه
الجريمة، وكذلك المحاضرات والندوات التوعوية بتصريح بلفور وما سبقه من تصريحات بلفورية
كانت تريد أن تجعل من فلسطين وطنا لليهود الصهاينة، وغيرها من الفعاليات التي خرجت
في إطار عمل وطني فلسطيني وتجربة جديدة في توحيد الفلسطينيين حول العالم، تجربة لا
بد أن تُدرّس وتُقيّم لتكون انطلاقة جديدة في العمل الفلسطيني في الخارج يواجه مشاريع
التطبيع والتمدد الإسرائيلي على حساب القضية الفلسطينية.
كذلك العمل الإعلامي
في حملة "بلفور مئوية مشروع استعماري" من خلال منصات التواصل الاجتماعي والتغريد
على #Balfour100، الذي هو ذات الهاشتاج الذي يستخدمه الاحتلال الصهيوني للاحتفال بذكرى
بلفور، يعكس حجم التخطيط لمواجهة الدعاية الصهيونية الكاذبة والتفوق عليها ومنع وصولها
بشكل مباشر إلى الجمهور والتصدي لها بالحُجّة والحقائق الموثقة تاريخيا.
حيث تجاوزت التغريدات
أكثر من 20 ألف تغريدة مع تكثيف التغريد على #Balfour100 يوم
1 (نوفمبر/تشرين الثاني) الماضي، كذلك حظيت الحملة بتغطية إعلامية متميزة من وسائل
الإعلام المختلفة، كذلك انفردت الحملة بإطلاق أول موقع إلكتروني لرصد وتسجيل الفعاليات
الشعبية وتقديم الخدمات الإعلامية من التصاميم والمعلومات اللازمة لإقامة الفعاليات
وبلغات مختلفة، مما يعتبر خطوة في دعم المؤسسات الفلسطينية في الخارج وتشجيعا للعمل
الوطني الفلسطيني.
كذلك جسّد موقع
المؤتمر الشعبي لفلسطينيي الخارج "فلسطينيو الخارج" على شبكة الإنترنت واجهة
عمل فلسطيني وطني من خلال نشر جميع الفعاليات الفلسطينية في مئوية بلفور، ومن يُبحر
في صفحات الموقع يرى بشكل واضح التنوع الموجود في مواده التي تتناول الفعاليات الفلسطينية
المتنوعة بألوان سياسية مختلفة، مما يعكس حاجة الفلسطينيين في الخارج إلى هذا النوع
من العمل الإعلامي الوطني الجامع بعيدا عن السياسة.
وربما يتساءل الكثيرون
عن جدوى هذه الحملات والفعاليات، وما بعد اعتذار بريطانيا عن تصريح بلفور، أقول إن
احتفال رئيسة الوزراء البريطانية تيريزا ماي ورئيس وزراء الاحتلال بنيامين نتنياهو
في داخل قاعة في لندن بعيدا عن عيون الشعب البريطاني الذي كان يتظاهر خارج القاعة رافضا
لهذه الاحتفالات هو انتصار للشعب الفلسطيني ولحملة "بلفور مئوية مشروع استعماري"
ولكل مَن يدعم الحق الفلسطيني.
هذا الاحتفال الذي
جاء بعد تصريحات تيريزا ماي التي أعادت تأكيد بريطانيا على مسؤوليتها عن جُرم تصريح
بلفور، ولو كانت رئيسة وزراء بريطانيا ونتنياهو قادرين على الاحتفال في العلن لما احتفلا
في قاعة وكأنهما معزولان أو منفيان.
وعلى العكس تماما
أحيا الفلسطينيون حول العالم هذه الذكرى الأليمة على مسمع ومرأى من الجميع، صدحت حناجر
الفلسطينيين ومَن يدعمهم في كل مكان مطالبين بريطانيا بالاعتذار عن تصريح بلفور، لم
يخجل الفلسطينيون فهم أصحاب حق، أحيوا هذه الذكرى تحت الضوء لا في أقبية مغلقة بعيدا
عن الإعلام وعيون الآخرين أشبه بالمجرمين.
وماذا إن اعتذرت
بريطانيا عن بلفور؟ سيصبح هذا التصريح باطلا، وعلى بريطانيا مسؤولية كبيرة تجاه أكثر
من ستة ملايين فلسطيني مشرد حول العالم وآخرين في داخل فلسطين، مسؤولية بريطانيا تقتضي
إعادتهم إلى أراضيهم المحتلة عام 48 وتعويضهم عن سنوات اللجوء والتشريد، بالمقابل مسؤولية
بريطانيا تجاه الصهاينة إعادة استقبالهم على أراضيها.
لا شك أن الموضوع
لا يقف عند اعتذار بريطانيا، ولا تقلّلوا من هذه الخطوة وإن كانت ضربا من الخيال، لأن
الشعب الفلسطيني في الخارج خاصة لا يمكن أن يقف مكتوف الأيدي أمام المشاريع الصهيونية،
هذا العالم ساحة مواجهة حقيقية ولا بد أن يواصل الفلسطينيون معركتهم في مواجهة المد
الصهيوني، ودائما لا بد من صخرات تواجه هذا المد وإن لم توقفه فإنها تحُدّ من قدراته
وتحقيق ما يريد.
لذا فإن الفلسطينيين
نجحوا في فك طلاسم تعويذة بلفور، وقلبوا السحر على الساحر، حيث إنه بعد 100 عام لا
يزال الفلسطيني متمسّكا بأرضه، ومهما طالت السنوات ستبقى هذه التعويذة تُشكّل أرقا
للحكومات البريطانية المتعاقبة طالما لم تعتذر وتسحب هذا التصريح المشؤوم، سيبقى الشعب
الفلسطيني ينافح ويؤرّق مضجع بريطانيا مع حلول ذكرى بلفور.
* إعلامي وباحث
فلسطيني
المصدر: مدونات الجزيرة