تغييب قضية اللاجئين عن الخطاب
الفلسطيني
بقلم: عبد الستار قاسم
تتوالى الأخبار حول تطورات القضية
الفلسطينية على مختلف وسائل الإعلام، ولا تتوقف التصريحات حولها ولا الخطابات
السياسية، لكن بالكاد نسمع عن لب وجوهر القضية الفلسطينية وهو قضية اللاجئين
الفلسطينيين.
يتمحور أغلب النشاط الخاص بالبحث عن
حل للقضية الفلسطينية حول إقامة دولة فلسطينية أو حول ما يسمى بحل الدولتين، وقضية
اللاجئين تبقى غائبة عن هذا النشاط، أو منزوية في ظل تلميحات خجولة من قبل سياسيين
فلسطينيين.
في الأمم المتحدة، هناك من
الفلسطينيين والعرب من يذكر معاناة اللاجئين الفلسطينيين بجملة متوارية لإثارة
شفقة من لا شفقة في قواميسهم، وعلى الجبهة الداخلية الفلسطينية، هناك تغييب واضح
لقضية اللاجئين في مختلف المرافق التعليمية والتثقيفية والإعلامية، ويندر أن نجد
المسألة مثارا للجدل والنقاش الخاص والعام. أما على الساحة الدولية فالعالم أخرس
تماما حول هذه المسألة ولا نسمع دولا أو جمعيات حقوقية أو إنسانية تطرح القضية على
بساط البحث.
تمزقت القضية الفلسطينية بعد أن كانت
كلا متكاملا تعبر عن حقوق شعب متكامل، لتصبح تارة قضية دويلة مستقلة، أو دولة غير
عضو في الأمم المتحدة، أو مستوطنات، أو خطاب أبي مازن في هيئة الأمم، أو رواتب
وأموال الضرائب التي تجبيها إسرائيل، أو الحرب على غزة، أو المصالحة بين فتح
وحماس، إلخ.
قضية فلسطين هي قضية اللاجئين أولا،
هي قضية شعب طرد من وطنه، وهي في لبها قضية أناس يعيشون في مخيمات تحت ظروف
اقتصادية واجتماعية ومعيشية صعبة للغاية، وهي ليست أي قضية فرعية أو ثانوية أخرى.
صحيح أن القضايا الفرعية مهمة لكنها
ليست ذات مرتبة أولى، ويجب ألا نتركها تطاول قضية اللاجئين الفلسطينيين أو تتعدى
على مرتبتها العليا في الاهتمامات العربية والفلسطينية.
وإذا كان هناك حل للقضية الفلسطينية
فإنه لا يمكن أن يتحقق إلا إذا اشتمل أولا على برنامج عملي لعودة اللاجئين
الفلسطينيين إلى بيوتهم وممتلكاتهم في الأرض المحتلة/1948، ولهذا من المطلوب أن
تكون قضية اللاجئين الشغل الشاغل لكل المهتمين بالبحث عن السلم في المنطقة العربية
الإسلامية وعلى المستوى العالمي. وكل من يحاول الهروب من الإقرار بحقوق اللاجئين الفلسطينيين
إنما يهرب من البحث الجدي عن حل للقضية الفلسطينية، ويحاول أن يبقي المنطقة
العربية الإسلامية في حالة حروب دائمة، ويعمل على تهديد السلم العالمي.
حق العودة
تتحدث الدول والمواثيق الدولية
وجمعيات حقوق الإنسان دائما عن حقوق الإنسان، ولكن الحديث يتوقف عند حقوق اللاجئين
الفلسطينيين. تقر المواثيق الدولية والتعاليم الدينية والدروس التاريخية بحق
اللاجئ في العودة إلى وطنه، ودائما تطالب دول كثيرة -والعظمى منها تحديدا- بعودة
اللاجئين والنازحين إلى بيوتهم وممتلكاتهم، لكن هذه الدول خرساء فيما يتعلق
باللاجئين الفلسطينيين، وحتى الأمم المتحدة لم تكن على قدر مسؤوليتها عندما اكتفت
في قرار مجلس الأمن 242 بالدعوة إلى حل قضية اللاجئين حلا عادلا دون أن تذكر من هم
اللاجئون الذين تعنيهم، ودون أن تتطرق إلى المواثيق الدولية الخاصة باللاجئين،
ودون أن تؤكد على قرار الجمعية العامة لعام 1948 رقم 194 الخاص بعودة اللاجئين
الفلسطينيين.
جرت الأعراف الدولية أن المتنازعين
يبحثون أولا كيفية مواجهة المشاكل الإنسانية قبل البدء بمفاوضات حول حل قضايا
سياسية واقتصادية وأمنية، إلخ. القضايا الإنسانية لها الأولوية على كل ما عداها من
مواضيع، ولهذا تتحدث الدول المتحاربة أولا عن قضيتين حيويتين وهما اللاجئون
والأسرى.
يتم الاتفاق أولا على عودة اللاجئين
أو المهجرين أو النازحين بسبب ظروف الحرب، ومن ثم يتم الاتفاق على تبادل الأسرى،
هاتان قضيتان لم تحظيا بالأولوية فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية، وبقي أمن إسرائيل
هو القضية الأولى والرئيسية التي خيمت على أجواء المفاوضات بين إسرائيل ومنظمة
التحرير والأنظمة العربية.
على مدى السنوات الطويلة بقيت طاولة
المفاوضات مطية للأمن الإسرائيلي وكان على الفلسطينيين المشردين أن يقفوا حراسا
على بوابات مملكة إسرائيل.
وبدل البحث في ترتيبات عودة اللاجئين
الفلسطينيين، تركز البحث على كيف يجب على الفلسطينيين تقديم الخدمات الأمنية
والعسكرية لإسرائيل، وكان على الفلسطينيين أن يرتكبوا الجرائم الأخلاقية بحق
أنفسهم فيقومون بالدفاع عن الأمن الإسرائيلي في الوقت الذي تقوم فيه الطائرات
الإسرائيلية بقتل الأطفال وهدم البيوت ومصادرة الأراضي وبناء المستوطنات.
انقلبت موازين العدالة في المفاوضات
التي جرت بين العرب وإسرائيل بحيث أصبحت تعني الدفاع عن المستوطنين وعن حق إسرائيل
في استنزاف الفلسطينيين والتضييق عليهم وقتلهم وهدم بيوتهم. أصبح العدل يعني حماية
إسرائيل والدفاع عن أمنها ومصالحها، وكذلك تغييب قضية اللاجئين الفلسطينيين.
إن أعظم ضربة أخلاقية تلقاها
الفلسطينيون تبعا لهذا الانقلاب تتمثل في فلسطينيين لاجئين عاشوا وترعرعوا في
مخيمات اللجوء ويقومون الآن بالدفاع عن الأمن الإسرائيلي. هناك فلسطينيون لاجئون
يعملون قادة في الأجهزة الأمنية الفلسطينية وينسقون أمنيا مع إسرائيل ضد أنفسهم
وضد شعبهم وأمتهم.
البحث عن دولة
لم تكن مسألة إقامة دولة فلسطينية
مطروحة كثابت فلسطيني يجب القتال من أجله، انحصرت الثوابت الفلسطينية في ثابتين
فقط وهما حق العودة وحق تقرير المصير.
لم تُطرح فكرة إقامة سلطة فلسطينية
أو عربية في الأرض المحتلة/67 إلا عام 1968 من قبل ألون الصهيوني الذي قدم اقتراحا
في حينه لحل القضية الفلسطينية بالتعاون مع الأردن. وكررت جولدامئير الفكرة عام
1973، لكن رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق مناحيم بيغن كان أكثر وضوحا عندما طرح
عام 1978 فكرة إقامة سلطة فلسطينية في الضفة الغربية وغزة تكون مدينة بيت لحم
عاصمتها، ويتم تشكيل قوة شرطية لها تتمتع بتسليح من إسرائيل لفرض النظام الداخلي،
أما أريئيل شارون فتبنى الفكرة عمليا وسعى إلى إقامة سلطة فلسطينية من خلال مجموعة
روابط القرى التي تم إنشاؤها لهذا الغرض.
رفضت منظمة التحرير الفلسطينية
الفكرة في كل مراحلها واعتبرت القبول بقيام سلطة فلسطينية وحكم ذاتي عملا من أعمال
الخيانة العظمى وعقوبتها الإعدام، وترجمة لهذا الموقف قامت منظمة التحرير
الفلسطينية باغتيال يوسف الخطيب رئيس روابط القرى في منطقة رام الله.
لكن الزمن بين لنا أن موقف منظمة
التحرير الفلسطينية لم يكن مستندا إلى قيم وطنية وإنما إلى رؤيتها فيمن يجب أن
يقود الخيانة الوطنية، ولهذا قبلت المنظمة بسهولة التوقيع على اتفاق أوسلو الذي
يشكل نسخة سيئة عن مشروع مناحيم بيغن لإقامة حكم ذاتي فلسطيني.
وقد كان واضحا في برنامج منظمة
التحرير الفلسطينية لعام 1974 أنها تتدحرج نحو القبول بالحكم الذاتي وإقامة سلطة
فلسطينية. تطور الموقف الفلسطيني الرسمي بعد ذلك ليصبح بحثا عن دولة في ظل
الاحتلال الصهيوني، ومن ثم تبنت وسائل الإعلام الفلسطينية فكرة إقامة هذه الدولة
لتكون ثابتا من الثوابت الفلسطينية، في حين أنها أقرب إلى الثوابت الإسرائيلية
بسبب سبق إسرائيل في طرح الفكرة.
الدولة على حساب العودة
كان من المهم بالنسبة للقيادة
الفلسطينية تبني فكرة إقامة الدولة وإلهاء الشعب الفلسطيني بها على حساب حق
العودة. كان واضحا من تحركات القيادة الفلسطينية على الساحتين الداخلية والخارجية
أنها تخلت عن حق العودة، وأنها تقدم خدمة إعلامية لهذا الحق فقط لذر الرماد في
عيون الشعب الفلسطيني.
وقد نجم هذا عن قناعة تبلورت لدى هذه
القيادة أن إسرائيل لن توافق أبدا على حق العودة، وأن الإصرار عليه سيجهض تماما
جهود البحث عن حل سلمي للقضية، وأنه إذا أراد الشعب الفلسطيني إقامة سلام مع
إسرائيل فإن عليه أن يتخلى عن حق العودة أولا، وكذلك عن حق تقرير المصير.
وقد بات الفلسطيني يلاحظ بعد اتفاقية
أوسلو أن العديد من ضباط الأجهزة الأمنية الفلسطينية قد أخذوا يبوحون بأن المطالبة
بحق العودة ستعرقل عملية السلام مع إسرائيل، وقد سمعت بأذني مرارا من يقول إن من
يريد حق العودة لا يريد إقامة السلام في المنطقة.
أما فيما يتعلق بحق تقرير المصير
فواضح أن منظمة التحرير الفلسطينية وقيادة السلطة الفلسطينية لا يأتيان على ذكره،
على الرغم من أن الجمعية العامة للأمم المتحدة قد اعترفت بحق تقرير المصير للشعب
الفلسطيني عام 1974.
تجهد السلطة الفلسطينية ومن معها
بالتذكير بقرار الجمعية العامة للأمم المتحدة الخاص بالاعتراف بفلسطين دولة غير
عضو في الأمم المتحدة، لكنها لا تكلف نفسها عناء التذكير بحق تقرير المصير والذي
يعتبر أهم بكثير من قرار الاعتراف بدولة، لأن إقامة دولة مشمولة أساسا بحق تقرير
المصير.
القيادة الفلسطينية تهرب من حق
اللاجئين في العودة وكذلك الأنظمة العربية، والبند الموجود في المبادرة العربية
الخاص باللاجئين يدلل على ميوعة الموقف الفلسطيني والعربي حيال هذه المسألة.
نص هذا البند على ضرورة البحث عن حل
عادل لقضية اللاجئين (وفق قرار مجلس الأمن 242) في ضوء قرار الجمعية العامة الخاص
بعودة اللاجئين رقم 194.
والواقع أن هذا القرار يشكل التفافا
على قضية اللاجئين، أو في أحسن الأحوال طرحها بصورة خجولة، والمفروض أن يكون
الموقف واضحا لا لبس فيه، وأن ينص صراحة على حق اللاجئين في العودة إلى بيوتهم
وممتلكاتهم في الأرض المحتلة 48، وألا يترك النص مجالا ليفهم بأن حق العودة يجب أن
يكون إلى الأرض المحتلة 1967.
ميوعة مواقف الفصائل
لم تكن الفصائل الفلسطينية جادة
تماما في مواقفها تجاه اتفاقية أوسلو وما ترتب عليها من تراجع في المواقف
الفلسطينية، وتراجع لمكانة القضية الفلسطينية على الساحة الإقليمية والعالمية.
اتفاقية أوسلو لم تلغ حق اللاجئين في العودة، لكنها أجلت البحث فيها للمفاوضات
الخاصة بالوضع النهائي. هذا التأجيل بحد ذاته جريمة وطنية، لكن الاعتراف بإسرائيل
ينطوي بالتأكيد على نفي حق عودة اللاجئين.
كان من المتوقع أن يخضع أهل أوسلو
للمعيار الوطني المتبع منذ عهد الانتداب البريطاني والذي يقول إنه يجب مقاطعة كل
الذين يتعاونون مع العدو، ويستهترون بالحقوق الفلسطينية.
الفصائل المنضوية تحت منظمة التحرير
الفلسطينية أقامت علاقات ودية فورا مع أهل أوسلو، وطلبت من السلطة وظائف لعناصرها،
وأخذت قياداتها تجتمع مع القيادات المتعاونة أمنيا ومدنيا مع إسرائيل، لكنها
استمرت بإصدار بيانات الشتم والسباب ضد أوسلو.
أما فصائل العمل الإسلامي فلم تقاطع
المتعاونين مع الاحتلال، ومن قياداتها من طلب وظائف لأبنائه، وتدحرجت الأمور إلى
أن أصبحت هذه الفصائل بعد حرب 2014 تستظل بمظلة أهل أوسلو.
أهل أوسلو قادوا المفاوضات بالنيابة
عن المقاومة الفلسطينية، ولم يأت أحد من قيادات المقاومة خلال الحرب أو خلال
المفاوضات على ذكر حق العودة وهنا أصبحت كل الفصائل الفلسطينية في نفس الخندق،
الأمر الذي يتطلب من الشعب الفلسطيني جهودا مضاعفة للمحافظة على حقوقه الوطنية
الثابتة.
المصدر : الجزيرة