القائمة

مواقع التواصل الأجتماعي
الأربعاء 27 تشرين الثاني 2024

تفكّك الشعب الفلسطيني

تفكّك الشعب الفلسطيني

بقلم: ماجد كيالي

تأسست الحركة الوطنية الفلسطينية المعاصرة على واقع أن الفلسطينيين شعب، بل إنها اضطلعت بدور كبير في صياغة هويتهم الوطنية، وروايتهم الجمعية، في السياق ذاته لاستنهاضها «مجتمعاتهم»، في الداخل وفي بلدان اللجوء والشتات. كما تكمن أهمية هذه الحركة أيضاً، في تأسيسها كيانيتهم السياسية، أي منظمة التحرير، التي أضحت بمثابة الكيان السياسي المعنوي والرمزي، المعبر عن وحدتهم وعن قضيتهم.

بيد ان هذا التشكيل، او هذا السياق، الهوياتي والكياني والوطني، لم يكن كاملاً، بسبب ضعف قدرة الحركة الفلسطينية على ابتداع معادلات سياسية تمكّنها من استيعاب، وتمثل فلسطينيي 1948، في إطاراتها، في شكل مباشر او غير مباشر، بدعوى ظروفهم الخاصة، وتحسباً لأي رد فعل إسرائيلي. طبعاً، قد يكون قد فات أوان هذا الحديث، بعد كل ما مرّ من تطورات، لاسيما ان فلسطينيي 48 اختطوا مساراً خاصاً ومختلفاً، من نواح كثيرة، لكن ذلك لا يغطي حقيقة أن الحركة الوطنية الفلسطينية لم تفكر في هذا الأمر، ولم تدرسه، وأنه كان بإمكانها ايجاد طرق وأطر مختلفة لتجاوز تعقيدات او محاذير هذه المسألة، في مراحل لاحقة، وحتى بعد انتهاء زمن الكفاح المسلح في الخارج، والتحول من حركة تحرر الى سلطة.

المغزى أن التهاون، او اللامبالاة، ازاء هذه القضية، التي تخص وحدة الفلسطينيين كشعب، ووحدة كفاحهم ومصيرهم، أدت في ما بعد الى شمول ذلك مجتمعاتهم الأخرى، من دون ادراك ضررها على مفهوم وحدة الشعب، ومفهوم حق تقرير المصير، ووحدة القضية.

هكذا تكرر الأمر ذاته مع مجتمع الفلسطينيين في الأردن، إذ باتوا خارج اطار المعادلات الفلسطينية، بعد أحداث ايلول (سبتمبر) 1970، التي نجم عنها اخراج منظمة التحرير وفصائلها من الأردن. فبعد هذا التاريخ انتهت كل تعبيرات الوطنية الفلسطينية في الأردن، ولم يقتصر هذا الأمر على الفصائل، إذ شمل أيضاً انتهاء المنظمات والاتحادات الشعبية الفلسطينية (الطلاب والعمال والمرأة والكتاب والمعلمين الخ)، كما المؤسسات ذات الطابع الإعلامي او الخدمي. اللافت ان هذا الوضع استمر، حتى الآن، رغم عودة الأحوال الى طبيعتها بين الأردن والمنظمة، لكن القيادة الفلسطينية استسلمت على ما يبدو للأمر الواقع ولم تحاول تغييره. وربما كان بإمكان هذه القيادة طرح هذه القضية مع السلطات الأردنية، للوصول الى صيغ معينة ترضي الطرفين، بما لا يخل بمكانة المواطنة للفلسطينيين في الأردن، وباعتبار ان الحفاظ على الوطنية الفلسطينية يشكل مصلحة مشتركة للطرفين، وبخاصة أن الأمر لم يعد يتعلق بممارسة العمل المسلح، ولا بممارسة العمل السياسي الذي يمس النظام القائم.

لم يتوقف الأمر عند الأردن، إذ إن خروج منظمة التحرير، بقياداتها وفصائلها ومؤسساتها من لبنان، إثر الاجتياح الإسرائيلي (1982)، أدى الى تداعيات خطيرة على مجتمع الفلسطينيين في لبنان، فهم الذين دفعوا ثمن صعود المقاومة المسلحة بما لها وما عليها، في لبنان، ثم ثمن خروجها منه، وهو ما تمثل بمجازر صبرا وشاتيلا، وحروب المخيمات، والتمييز ضدهم. لكن الأمر لم يقتصر على ذلك، إذ ان تركة منظمة التحرير وفصائلها، كانت بالغة الهشاشة، فقد تبين انها، في مبالغتها ببناها الميلشياوية، لم تبنِ مؤسسات اجتماعية وتعليمية واقتصادية وخدمية للفلسطينيين، تمكنهم من الصمود. والحقيقة فإن وجود المقاومة كان له أثر سلبي في مجتمع الفلسطينيين في لبنان، لأنه استنزفهم، وقوّض مكانة الطبقة الوسطى بينهم، وأخذ شبابهم في اتجاهين، اما الانخراط في المنظومات الميلشياوية، او الهجرة الى الدول الاسكندنافية. والمؤسف ان المنظمة في ظروفها الصعبة، وإمكانياتها الضعيفة، لم تستطع ان تفعل شيئاً لهم، بعد خروجها، ولا بعد تحولها الى سلطة، بل انها ظلت تحافظ على بعض بنى ميليشاوية لها في لبنان، نتج منها الاستثمار السياسي الإقليمي، والمنازعات والمنافسات الفصائلية. وفي كل الأحوال فإن مساهمة مجتمع الفلسطينيين في لبنان في العمل الوطني الفلسطيني، باتت هامشية، ما ينطبق على كل مجتمعات الفلسطينيين في الخارج.

بعد الأردن ولبنان جاء دور المجتمع الفلسطيني في الكويت، إثر غزو هذا البلد من قبل نظام صدام، الأمر الذي دفع ثمنه الفلسطينيون باهظاً، بإخراجهم منه (حوالى 300 الف) ليس فقط بسبب موقف قيادتهم الملتبس آنذاك، وإنما أيضاً بسبب الظروف العربية والدولية، ومن ضمنها ظرف استهداف منظمة التحرير في تلك الفترة، في مطلع التسعينات، تحضيراً لعملية التسوية. ومع ان مجتمع الفلسطينيين في الكويت، جاء اصلاً من بلدان اخرى، اي من الأردن (الضفتين) ولبنان وسورية، باعتبار أن الكويت لم تكن من الدول التي استقبلت اللاجئين بحكم بعدها الجغرافي، إلا انها كان تحتوي على ثاني اكبر جالية فلسطينية من حيث الحجم، بعد الأردن، كانت تضم حوالى 350 الف فلسطيني، معظمهم من ذوي الكفاءات، ساهموا في نهضة الكويت، وأدى وجودهم فيها الى تأمين مصدر دخل لعشرات آلاف العائلات الفلسطينية في الأرض المحتلة (1967) وفي بلدان اللجوء، الأمر الذي ساهم في صمود الفلسطينيين في الانتفاضة الأولى (1987- 1993). ومعلوم أن الكويت كانت واحدة من اهم البلدان التي كان يتواجد فيها من عرفوا في ما بعد بقادة منظمة التحرير، ومن بينهم الزعيم الفلسطيني ياسر عرفات وخالد الحسن وأبو الأديب مثلاً.

أيضاً، وبعد الغزو الأميركي للعراق (2003)، ومع الطبقة الحاكمة التي أتت على ظهر دبابة اميركية، محمولة بنزعة طائفية - مذهبية، تعرض مجتمع الفلسطينيين الى نوع من الاضطهاد والتنكيل، ما اضطرهم الى ترك العراق، والتشرد مجدداً. وعليه بات فلسطينيو العراق يعيشون في مخيمات مزرية على الحدود العراقية - الأردنية او العراقية السورية، إلى ان وجدت لهم مناف جديدة. والمشكلة هنا ان منظمة التحرير لم تستطع ان تفعل شيئاً لهم، ولم تحمل قضيتهم على نحو مناسب، سواء امام السلطات الأردنية او السورية، لإدخالهم. والأمر الذي يبعث على الدهشة والمرارة ان لا أحد من الفصائل، التي تتمتع بعلاقات تحالف مع ايران، حمل هذه القضية، ووضعها في سلم اولوياته، للضغط على الإيرانيين لوضع حد لهذه المأساة المشينة، باعتبار ان لا شيء يجري في العراق منذ ذلك التاريخ من دون رعاية او توجيه من النظام في ايران، لا سيما انه يجري بواسطة ميليشيات محسوبة عليها.

ومؤخراً، وتحديداً منذ نكبة مخيم اليرموك (أواخر 2012)، وتدمير مخيمات درعا وسبينة وحندرات، ها نحن نشهد مأساة فلسطينية جديدة، هي جزء من مأساة الشعب السوري، مع تفكك واحد من اهم مجتمعات الفلسطينيين اللاجئين، وتحول عشرات آلاف الفلسطينيين الى الدول الأوروبية. ومفهوم أن منظمة التحرير لا تستطيع ان تعمل شيئاً في ظروف الحرب والكارثة السوريتين، لإبعاد الخطر عن مخيمات الفلسطينيين، لكن ذلك لا يبرر لها تساهلها وعدم ضغطها على السلطات السورية لوقف استهداف المخيمات، ووقف قصفها، ومحاصرة حوالى عشرين ألفاً من أهالي مخيم اليرموك، منذ قرابة ثلاثة اعوام. كما كان بإمكانها ايلاء اهتمام اكبر لأوضاع الفلسطينيين المشردين، في الدول الأخرى (الأردن ومصر وتركيا)، وعدم التنكر للضحايا السوريين الذين ذهبوا ضحية النظام، او ضحية الصراع الضاري في هذا البلد.

المهم انه مع كارثة مجتمع الفلسطينيين السوريين، تكون الدائرة المتعلقة بتفكيك مجتمعات اللاجئين الفلسطينين قد اكتملت، ما يفقد الحركة الوطنية الفلسطينية أحد اهم مبررات وجودها، وأحد أهم مصادر قوتها، ناهيك بأن الأرضية التي ينطلق منها حق العودة باتت اضعف من ذي قبل، علماً ان القيادة الناجحة تتحدد بقدرتها على الحفاظ على مواردها البشرية، لا تبديدها، كما تتحدد بحسن ادارتها واستثمارها بأفضل ما يمكن.

المشكلة ان القيادة الفلسطينية، وفي غضون تركيزها على المفاوضات، وعلى تعزيز مكانتها في القيادة والسلطة، لا تولي الأهمية المناسبة لتدارك تبعات هذا المسار الخطير، كأنها لا تدرك ان تفكك مفهوم الشعب الفلسطيني، يؤدي حكماً الى تفكك وحدة القضية الفلسطينية. والحقيقة فإن هذه القيادة تتحمل المسؤولية عن الوصول الى هذه الحال، اولاً، بعدم اهتمامها بمجتمعات اللاجئين، التي تركت لمصيرها، واحداً تلو الآخر (وهو ما يشمل واقع قطاع غزة حالياً). وثانياً، بحكم ضعف اهتمامها بالمنظومات التي تعزز وحدة شعب فلسطين، وهو ما كانت تشكله اتحادات الطلاب والعمال والمرأة والكتاب والمعلمين وغيرها، والتي باتت مهمشة، ومقتصرة في الغالب على الداخل. وثالثاً، بتحولها الى سلطة على جزء من ارض لجزء من شعب، وتهميشها منظمة التحرير، ما همّش مكانة اللاجئين ومجتمعاتهم في جدول اعمالها.

في هذا الإطار يحق لنا ان نتساءل، ماذا تفعل السفارات الفلسطينية في الدول العربية او في الدول الأوروبية؟ ومثلاً، هل تقوم بتظيم احصاء للفلسطينيين الوافدين إلى هذه الدول؟ هل تقدم تقارير للقيادة عن اعدادهم وأحوالهم وإمكانياتهم؟ هل هناك جهة معينة تدرس كيفية تسهيل احوالهم، او كيفية تنظيم وجودهم، او كيفية الاستفادة منهم؟

المصدر: دار الحياة