تهويد الأرض ومحو الذاكرة
بقلم: علي بدوان
مرت عملية هدم منزل مفتي فلسطين المرحوم الحاج محمد أمين الحسيني في مدينة القدس المحتلة دون ردود فعل قوية أو مؤثرة، على الرغم مما يمثله المكان المستهدف من رمزية عالية ليس عند الفلسطينيين فقط، بل عند عموم العرب والمسلمين.
فالمفتي الحاج أمين الحسيني، لم يكن مفتياً لفلسطين فقط قبل النكبة، بل كان مفتياً لديار الشام قاطبة، كما كان رمزاً إسلامياً وعربياً وفلسطينياً قاد نضال الشعب الفلسطيني قبل النكبة، ولمع اسمه حتى بات مصدر قلق لسلطات الانتداب والحركة الصهيونية، كما بات في حينها رجل فلسطين الأول الذي تغنت به جموع الفلسطينيين وأطلقت عليه لقب (سيف الدين الحاج أمين).
وبالتالي فإن عملية استهداف منزل الحاج محمد أمين الحسيني الذي تحول إلى فندق (شبيرد) يمثل استهدافاً للذاكرة الوطنية الفلسطينية، كما يمثل استهدافاً لقيم المقاومة التي كان يحملها شخص المفتي في فلسطين، فضلاً عن كونها إزالة لقيمة رمزية وتاريخية في مدينة القدس. غير أن الخطر الإضافي الأكبر المتمثل في هدم بيت المفتى والمشاريع المنوي إقامتها مكانه وعزل البلدة القديمة، في كون ذلك كله مقدمة للاستيلاء على المقدسات الإسلامية والمسيحية فيها، وخاصة المسجد الأقصى.
لقد هدمت جرافات الاحتلال "الإسرائيلي" منزل المفتي الذي كان قد تحول في فترات ماضية إلى فندق حمل اسم (فندق شيبرد) بحي الشيخ جراح وسط المدينة المقدسة تمهيدا لبناء حي استيطاني مكانه، وذلك بعد (25) عاماً على مصادرته من يد أصحابه الحقيقيين.
لقد أشاد المفتي الحاج أمين الحسيني منزله (نزل شيبرد) في ثلاثينيات القرن الماضي ليشكّل منزلاً لعائلته ولزواره خارج أسوار البلدة القديمة، وعندما نُفي الحاج الحسيني من قبل سلطات الانتداب البريطاني في العام 1937، سيطرت سلطات الانتداب على مبنى (المنزل/الفندق) وتم استخدامه موقعاً عسكرياً، وقد استعاد وكلاء المفتي من أبنائه وذريته ملكيتهم للمبنى أثناء فترة الحكم الأردني للضفة الغربية والقدس الشرقية من عام 1948 إلى عام 1967، وقاموا بتأجيره فندقاً وهكذا أصبح المبنى يعرف باسم "فندق شيبرد".
إلا أن سلطات الاحتلال، وإدراكا منها لمعاني هذا المكان وموقعه في الذاكرة الوطنية للمقدسيين وعموم الفلسطينيين، قامت بعيد احتلال العام 1967 بمصادرة المبنى وتحويله إلى "حارس أملاك الغائبين"، الذي بدوره حوّله إلى ما يسمى بـ"سلطة التطوير الإسرائيلية"، ومن ثم نُقلت ملكيته إلى الشركة المختصة بتنفيذ أعمال الاستيطان في الأراضي الفلسطينية المحتلة الاستيطانية والتي يقودها الممول الأميركي اليهودي وصاحب أندية القمار في نيويورك وواشنطن (ايرفينغ موسكوفيتش) في الخامس من تشرين الثاني 1985، الذي ما لبث أن طرح مشروعاً لهدم (المنزل/الفندق) لبناء موقع استيطاني يهودي على أراضيه، بحيث يضم في المرحلة الأولى منه (30) وحدة سكنية والمرافق الملحقة بها، وفي المرحلة الثانية (90) وحدة.
وفي حقيقة الأمر، فإن هدم بيت المفتي الحاج محمد أمين الحسيني يأتي أيضاً جزءاً من مخطط استيطاني تهويدي صهيوني للاستيلاء على منطقة وحي الشيخ جراح برمته في القدس المحتلة، وهو مقدمة لتهويد الغلاف الشمالي للبلدة القديمة في القدس، والإسراع بعزل القدس وتغيير الوقائع الديمغرافية فيها بشكل لا يتيح الفرصة لنجاح أي مفاوضات مستقبلية بشأنها.
إن ما يقع الآن بالنسبة لحي الشيخ جراح، يقع أيضاً في باقي الأحياء العربية الإسلامية والمسيحية في المدينة، كما هو الحال في أحياء: سلوان، وجبل الزيتون، ورأس العامود، والعيسوية والأحياء الأخرى في القدس الشرقية، في سياق الجهود "الإسرائيلية" لخلق طوق من المستعمرات يفصل البلدة القديمة في المدينة المقدسة عن باقي أحياء القدس الشرقية المحتلة وعن الضفة الغربية.
ولم يكتف الممول الصهيوني سيئ الصيت والسمعة، وصاحب أندية القمار في نيويورك وواشنطن، (موسكوفيتش) بذلك، بل أعد مخططاً واسعاً لبناء (390) وحدة استيطانية تهويدية تشمل بيوت عائلات فلسطينية ملاصقة لفندق (شيبرد) في المدينة، تحت إطار عمل "جمعية عطيرت كوهانيم" الاستيطانية التهويدية.
وفي هذا السياق، تشير المعطيات والمعلومات المتوافرة، أن مخططات سلطات الاحتلال تسعى إلى هدم عشرين ألف مبنى ومنزل في القدس المحتلة، يقطنها نحو سبعين ألف مقدسي من أبناء المدينة من العرب الفلسطينيين المسلمين والمسيحيين، يمثلون نحو ثلث سكان المدينة من الفلسطينيين.
إن عمليات تهويد المدينة، وإنهاء الوجود العربي الإسلامي والمسيحي فيها، تجري منذ ثلاثة عقود، وقد تسارعت في الفترات الأخيرة، بينما يسود السكون والصمت في الحالة العربية والإسلامية التي لم تحرك ساكناً على صعيد اتخاذ إجراءات ملموسة وفعالة من أجل الدفاع عن المدينة ووقف إخطبوط التهويد والاستيطان الجائر.
إن (إسرائيل) الصهيونية تواصل ممارساتها التهويدية وغيرها، داخل عموم فلسطين وفي القدس بشكل خاص، غير عابئة بالقانون الدولي، ولا باتفاقية جنيف الرابعة لعام 1949 بشأن الأراضي الواقعة تحت الاحتلال، وهي تتغذى في سلوكها العدواني هذا من التواطؤ الأميركي، ومتلحفة تحت الغطاء الذي توفره لها واشنطن، ومن الصمت العربي والإسلامي، الذي مازال عند حدوده المعروفة دون أي فعل ملموس لدعم وإسناد الفلسطينيين وسكان المدينة المقدسة.
إن القدس العربية والإسلامية تعيش لحظاتها الأخيرة، بينما معاول الاحتلال تواصل هدم أركانها وبنيانها ورمزيتها، واقتلاعها من الخارطة والوجدان العربي والإسلامي. ومن هنا فإن بيانات التنديد والشجب والاستنكار، المجردة على اختلاف تضاريسها الشعاراتية القومية والإسلامية، لم تعد الفلسطينيين شيئاً مادامت باقية عند حدودها الإعلامية، وعند حدود التعبير اللفظي دون عمل مباشر وحقيقي.
فالمطلوب الآن، بناء "إستراتيجية عربية بديلة" وبناء رؤية سياسية تقود نحو استثمار كل عوامل وأوراق القوة باليد العربية في مواجهة دولة الاحتلال وسياساتها في فلسطين،. فالمطلوب الخروج العربي الرسمي من حالة الاهتراء والانتقال إلى طور جديد من موقف المتفرج إلى موقف الفعل والتأثير.