جريمة المفاوضات السرية
د. عبد الستار قاسم
المفاوضات الفلسطينية مع إسرائيل كلها جريمة واعتداء
على الوطن الفلسطيني والحقوق الوطنية الثابتة للشعب الفلسطيني لأنها منذ البدء لم تقم
على أسس ومقومات يمكن أن تؤدي إلى انتزاع ولو جزء محدود من الحقوق الفلسطينية. انطلقت
المفاوضات من موقع الضعف الفلسطيني الاستجدائي الذي ظن صاحبه الفلسطيني في أحسن أحواله
أن قوى خارجية معادية قد تضغط على الكيان الصهيوني فيتنازل بعض الشيء عن مطالبه التي
لا تنتهي.
بدأت المفاوضات السرية مع الصهاينة عبر دول أوروبية
وأمريكية مع بداية السبعينات، وأبقت قيادة منظمة التحرير الفلسطينية على هذا الخط منفصلا
تماما عن النشاطات الأخرى، ومخفيا عن مختلف الفصائل الفلسطينية. وعندما بدأت مسيرة
التفاوض المدريدية، اختارت منظمة التحرير خطا تفاوضيا سريا بموازاة الخط التفاوضي شبه
العلني الذي كانت واشنطون مسرحا له.
السرية في مصلحة الأقوياء
يصر الأقوياء عادة على سرية المفاوضات لأنهم يمارسون
ضغوطا متنوعة وكثيرة على الضعفاء ولا يرغبون بنشرها على الملأ. تحتوي ضغوط الأقوياء
على التحذير والوعيد والتهديد والشتائم والسباب، وخروج مثل هذه الضغوط إلى وسائل الإعلام
يضعهم في مواقف إنسانية وأخلاقية وعالمية محرجة جدا، وستأتيهم بنتائج تفاوضية وإعلامية
سلبية. إلى جانب تهديد أعضاء الوفود ورؤساء الدول والتنظيمات، يمارس الأقوياء الإغراء
والإغواء فيقدمون المال والنساء لأعضاء الوفود، وكذلك الامتيازات المختلفة مثل الرحلات
السياحية والاستجمام، الخ من أجل الحصول على ما يريدون. ويمارس الأقوياء أيضا خططا
وصولات حول صناعة انطباعات شعبية جيدة حول المفاوضين لدى شعوبهم وذلك لإكسابهم ثقة
مزيفة لكي يستمروا في تقديم التنازلات. الأقوياء يملكون وسائل إعلام قوية وذات نفوذ
واسع، وبإمكانهم إعطاء أوصاف العبقرية والقدرة التفاوضية المتميزة للمفاوضين الضعفاء.
كم من زعيم عربي عميل وخائن وصفه الإعلام الغربي
بالذكي والمتمرس والكاريزمي (الإلهام)، وبأوهام المهنية والتصميم والصلابة لكي يسوقه
للشعب العربي؟ وفي أغلب الأحيان، تنخدع الشعوب بما يقال في الإعلام، ولا تصحو على الكذب
والتضليل إلا بعدما تكون الفأس قد شقت الرأس.
المفاوض الفلسطيني والسرية
كنت أدرك منذ السبعينات أن القيادة الفلسطينية تقود
الشعب الفلسطيني إلى الهاوية، وطالما تحدثت وكتبت حول هذا الموضوع، لكن ظروف المرحلة
لم تفسح مجالا للتفكير المتوازن حول قياداتنا. المعنى أنني أدرك أن كل المشروع التفاوضي
ليس فلسطينيا، ولا يمكن أن يؤدي إلى حصول الفلسطينيين على أي جزء من حقوقهم الوطنية
الثابتة. المفاوضات منذ بدايتها حتى الآن سارت باتجاه:
1-
إقامة سلطة فلسطينية تقدم خدمات أمنية وإدارية لإسرائيل، وتبقى في مجملها
تحت الهيمنة الإسرائلية الأمنية والعسكرية. هذا أمر أنجزته إسرائيل.
2-
صناعة ظروف داخلية وخارجية تؤدي إلى تمزيق الشعب الفلسطيني اجتماعيا وأخلاقيا
بحيث يتحول الشعب إلى مجرد أفراد يبحث كل واحد منهم عن مصالحه الخاصة، وبذلك تذوب الحقوق
الوطنية وتبرز مكانها الاهتمامات الاستهلاكية. وهذا الأمر يعيش معنا الآن من حيث تراجع
القيم الوطنية بصورة حادة لصالح القيم الاستهلاكية، وتبخر الثقافة الوطنية لصالح ثقافة
الراتب. لم تكتمل هذه الدائرة بعد، لكنها في طريقها، والأمر يعتمد في النهاية على الشعب
الفلسطيني الذي له قرار التمرد أو الرضوخ.
لو افترضنا حسن نية المفاوض الفلسطيني، القبول بالمحافظة
على سرية المفاوضات بله وجهل. العلنية في المفاوضات نقطة قوة للضعفاء ونقطة ضعف للأقوياء،
ومن المفروض أن تخرج دقائق الجلسات التفاوض ية إلى العلن لكي يسمع العالم ويرى، ولكي
يتم زج الجانب الصهيوني في زاوية إعلامية امام العالم أجمع. القبول بسرية التفاوض يخدم
إسرائيل ويريحها من عناء الإعلام، ومن متابعات منظمات الديمقراطية وحقوق الإنسان.
ضرورة المفاوضات العلنية
كما بدأت، لا ثقة بجلسات تفاوضية تستند إلى الضعف.
القوة أهم نقطة في أي عملية تفاوضية، وغيابها يعني خسران طاولة التفاوض. وكل من يفاوض
من منطلق ضعف، إنما يقرر مسبقا أنه سيتنازل. وهذا الأمر كان واضحا عندما قررت السلطة
وقف المفاوضات إذ أوقفتها علنا ثلاث سنوات دون أن تصنع شيئا في مواجهة الاستيطان، ودون
أن تطلب من أحد رأيا حول كيف يمكن مواجهة الاستيطان، وفي نفس الوقت استمرت بالتنسيق
الأمني مع الصهاينة. هذا دليل قاطع على الإصرار على الضعف، وليس مجرد الإبقاء عليه.
على أية حال، العلنية في المفاوضات ضرورية لأن:
1-
المفاوض الفلسطيني فاشل تماما، وكل ما فعله عبر السنوات أنه لبى متطلبات
إسرائيل، وعجز تماما عن الوفاء بكل الوعود التي صرح بها فيما يتعلق بالحقوق الوطنية
الفلسطينية.
2-
المفاوض الفلسطيني جاهل بفن التفاوض، وهو يحتاج إلى دروس في الديبلوماسية
والتفاوض.
3-
كما ألاحظ، فقد أغلب الناس الثقة كليا بالتفاوض والمفاوضات، وفقدوا الثقة
بالمفاوضين. وواضح أن جعجعة وبعبعة مسؤولين فلسطينيين على شاشات التلفاز حول قدراتهم
العظيمىة وخططهم المستقبلية لتحقيق الإنجازات لا يقابلها الناس إلا بالتندر والاستهزاء.
4-
يرى أغلب الناس أن هؤلاء الذين يتحدثون باسم الشعب الفلسطيني قد استفادوا
ماديا ووجهيا، وأن ما يجري من ترهات تفاوضية ليست إلا مشاريع استثمارية يجني أصحابها
من خلالها الفوائد على حساب هذا الشعب المشرد الذي أكلت الظنون من جنباته كما فعلت
الاعتداءات الصهيونية المتواصلة.
لكن إلى متى سننتظر أيها الناس؟