جمهورية مخيم اليرموك
بقلم: أيمن خالد
كثيرون يحسبون مخيم اليرموك جغرافيا سكنية كغيرها في مصاف المدن الثقيلة أو المنهكة، فهو كغيره من خيام النكبة بني على الوحل على أطراف المدن ، ولما نبت الزهر فيه جاء من أوقد على الطين يراه صرحاً لعله يطّلع منه على الأسباب.
في مدخل مخيم اليرموك أقواس النصر بُنيت عليه، وفي آخر المخيم مقبرة الشهداء بناها عليه، تتسلل إليها أمهات الشهداء قسطاً من العمر، فما أكثر الذين خرجوا من المخيم وعادوا محمولين إليه، في زمن كان المخيم يرسل جبهتين إلى البقاع أو بيروت، ويعيد دفن الجثتين، ويعيد قصة حارتين يتيمتين، وما أكثر الذين خرجوا ولم يعودوا، لم توصلهم الطريق، ولم تعدهم البيارق، فبقيت أمهاتهم يستندن إلى جدار، عيونهن على أي رماد لقبر، يحلمن أن يقال لهن هذا قبر فلان، وما أكثر الذين خرجوا قبل أربعين سنة ولم يعودوا، كاليوم والأمس.
هو عنوان السياسة التي لا نريد أن نكتب فيها، فمن عرف فلسطين عرف المخيم، واستعان به إليه، وجنبه عثرات هذا القهر، وبعيدا عن الساسة كان مدينة من خيال، نبتت على أطرافه من جهاته الثلاث أحياء أبت إلا أن تتسمى بأسماء تحمل دلالات رمزية مهمة، فهناك حي التضامن، والعروبة وحي التقدم، وآخرها منطقة الجزيرة التي بين المخيم والحجر الأسود، ولعل الاسم حمل الدلالة بين الحجر الأسود والجزيرة وفلسطين، اختصار الطريق الممتد من مكة إلى القدس.
أربعة شوارع مهمة، اليرموك الشارع الطويل الذي يسير بموازاته تماماً شارع فلسطين، وكأن فلسطين لا تكون أبداً بلا اليرموك، وفي آخره شارع القدس، العنوان الأخير لكل مخيم، وفي وسطه شارع لوبيا، القرية الفلسطينية التي جمعت شتات القرى وصمدت حتى كسرتها جيوش العرب عام النكبة الأولى.
واذا عبرت على الزقاق تلونت ألوانها وبدت إليك بكل صنف تقتني صور الشتات، وتجمع فيها كل اختصار لفلسطين، والعرب، وغير العرب، ففي مخيم اليرموك مليون وربع إنسان، تآلفوا من كل شيع الأرض، ففيه الفلسطينيون الذين أسسوا دولة الشتات القائمة على الصبر، وجاء السوريون من بعدهم، ثم العرب ثم الأفارقة والآسيويون من طلبة وطلاب رزق، وغزا المخيم أيضا شاب من الصين، صيني الأصل، من بيجين، فتح أول سوق باسم البيت الصيني، فدخلت الصين عبر مئات الحاويات المحمولة من دبي إلى اللاذقية وعنوانها مخيم اليرموك.
في مخيم اليرموك سوق للذهب وسوق للفضة، واسواق الملابس تباع فيها بضاعة توازي فخامة حي الصالحية الدمشقي، وفيه سوق يوازي سوق الحميدية، مخصص لذوي الحاجة الميسورة، وفيه أربعة بنوك، وسوق للصرافة، بيضاء وسوداء، بحسب الطلب، ومحال السجائر النظامي والمهربة، وفيه محال الخضار وسوق الجملة الذي يمتد على أرصفة شارع فلسطين. كل صباح تأتي كثيرات من النسوة يحملن بضاعة يحبها الفلسطينيون، الخبيزة، العلت، العكوب في موسمه، وغير ذلك، وفيه تحميل الرحال إلى الجوار، فكل الأحياء التي أحاطت نفسها به، .. تضامن.. عروبة.. تقدم.. كلها ربطت مصيرها في المخيم، في مخيم اليرموك سوق الجملة للخضار والفاكهة القادمة من الأرياف والتي تزاحم أكبر أسواق المدينة، فتكتظ الطريق، فيأتي عامل البلدية يصرخ بالنسوة لفتح الطريق، لكن الطريق لا يفتح بفعل تزاحم الأقدام، فيقبض عامل البلدية حصته ويمشي.
في مخيم اليرموك سوق السيراميك والرخام الإيطالي وفن الخيط العربي ومعامل الخياطة الفخمة. ورشات الأحذية، وكل أنواع ولوازم النجارين والبنائين ومتعهدي الرمل والإسمنت، وأصحاب العقارات وجيش المهندسين، والأطباء الذين أشهرهم من يبني عشاً في المخيم، والصيادلة، وفيه تجارة دوائية هائلة تمتد من الخليج إلى بيروت، وتعبر المخيم أو بعكس الطريق تماماً، فالسماسرة يعملون بكل اتجاه وكل نوع وزبون وعملة.
في المخيم مستشفيات أربع وخامس قيد الإنشاء، كانت تجري أكبر العمليات وكانت تستعد لعمليات القلب وغيرها، وفيه جيش المحامين، والمثقفين والكتاب والأدباء والشعراء، وفيه أيضا المراكز الثقافية التي أبت حتى آخر لحظة أن تقفل حواراتها، وفيه صالات عرض خاصة اكتشفها الفنانون الذين لا يجدون مكاناً يعرضون فيه لوحاتهم فاستقبلهم المخيم وأهله، وفيها صالات النت، وفيها المطاعم التي تأتيك بما لا تدري من فنون الطعام، وفيها سوق للأطعمة ممتد من جوار مشفى فلسطين إلى مخبز حمدان، وهذا السوق قصته عجيبة، فالمحلات الموجودة فيه لم تغلق أبوابها ليلا ولا نهارا منذ 15 سنة فقط، وهو الوحيد ربما الذي أكل الصدأ مفاصل الأبواب لأنها لم تغلق، واليوم بالطبع باتت من الماضي.
في مخيم اليرموك مختلف لوازم البيوت وكل ما تحتاجه العروس من أثاث عربي واجنبي، وغرف النوم الاجنبية، ومختلف ماركات التجميل العالمية، وفيه تتسلل الملابس الاوربية الحديثة الفخمة، وفيه أيضا بضاعة الفقراء من البالات الاوربية، وفـــي المخيم سوق للسيارات القديمة، والحديثة وعشرات وكالات السيارات، وفيه المدارس، والمعاهد، وفيه قرابة عشرين مسجداً، والمكتبات وصناعة الموسيقى والفن والتمثيل، وبجواره بموازاة شارع الثلاثين قطعة أرض كبيرة يملك الفلسطينيون قسما منها، كان حلم أهل المخيم أن يقام عليها جامعة قبل أن تصادرها المحافظة، وفيه الدار والجار واختلاف السياسة، وفيه الفصائل، وظل أكبر منا جميعا، وفيه كان الأطفال يرسمون أسئلتهم في دفاتر الرسم، التي ظلت ترسم زهراً وربيعا وبحراً، وأشياء كثيرة سرقوها من ذاكرة آبائهم وباحوا لنا بما سرقوا.
لكن المخيم اليوم هو غير المخيم، فقد نزح إليه أهل التضامن، فاحتضنهم، واهل العروبة والتقدم، وأهل الحجر الأسود، ثم كثرت الأثقال عليه، وكان عليه أن يرحل ثقيل الخطى بمن احتضنهم من بين الرماد والنار، لينهي قصة جمهورية عجيبة، تجانست فيها الأشياء، وتآلف فيها البشر واتفقوا في دنيا كانت تموج بالجدل.
عندما غادر المخيم أهله التقطت كاميرات الهواة أطفالا بعمر الورد يحملون حقائبهم المدرسية على ظهورهم ويرحلون، لماذا حقائبهم المدرسية، هم سيكتبون قصة آخر خيمة كانت لفلسطينيي الشتات، وهم يحملون حلم الفلسطيني على ظهورهم ويحملون في ذاكرتهم أنه بجوار المخيم كانت كلمات .. التقدم.. العروبة... التضامن... وباقي ذكريات شعارات الامة.
دائرة شؤون اللاجئين – وكالات أنباء