ابراهيم العلي
على أعتاب العام
الثامن من التهجير والخروج من المخيم، نهضت في الصباح الباكر وانتقيت أجمل الثياب وتعطرت
ومسحت حذائي وحرصت على أن اصطحب نظاراتي الشمسية التي طالما كنت أنساها على الكرسي
قبل الخروج من البيت.
وبخطى حثيثة باتجاه
الباب للحاق بالموعد المحدد مسبقاً للدخول إلى مخيم اليرموك بعد الحصول على الموافقات
المطلوبة للاطلاع على أحوال المخيم والاطمئنان على منزلي هناك ومنازل عائلتي وجيراني.
بالفعل وصلت إلى
المكان فوجدت الوفد الذي يضم "علية القوم" من فصائل ومشايخ ووجوه المخيم.
فدخلت برفقتهم فرحاً
مسروراً تسابقني خطواتي التي جعلتني متقدماً على الآخرين تارة، وعلى ذات الخطى تارة
أخرى، متنبهاً بضرورة الحفاظ على البروتوكول والالتزام بالتعليمات.
بعد الولوج إلى شارع
اليرموك، ومع الاقتراب أكثر من الحي الذي كنت أسكن فيه، بدأ حماسي يتراجع ومشاعري السلبية
تتأجج، وكنت أحاول أن اقنع نفسي بأني داخل إلى مكان آخر غير المخيم، وربما أنا في منطقة
ضربتها عشرات الزلازل المدمرة، إلا أن بعض المعالم الصامدة كأشجار الكينا ضاربة الجذور
الموزعة على طرفي الشارع كانت توقظ ذاكرتي، وتعيدني إلى أيام الزمن الجميل على ذلك
الشارع فأشعر بقليل من الهدوء فأتابع السير على أمل أن أخرج من هذا المشهد إلى مشهد
أقل قتامة.
لم يكن المنظر الكئيب
العنصر الفاعل الوحيد في رفع منسوب الغضب والكآبة، حيث أن تعليقات الوفد المرافق وتحليلاته
للمشهد أعتقد كانت الأكثر تأثيراً، فالكل يكذب ويجامل ويلقي باللوم على الارهابيين
كيف دمروا المخيم متناسين دور الطيران والقصف المدفعي الذي تعرض له المخيم طيلة سنوات
سيطرة المعارضة المسلحة بكل أصنافها، والدور الذي يقوم به العفيشة أمام أعيننا جميعاً
في استكمال نهب وتدمير ما لم يصله القصف.
المهم تابعنا المسير
فوصلنا إلى مشفى الشهيد محمد فايز حلاوة فإذا هو أثر بعد عين، هذا المشفى الذي ولد
فيه ابني الأول حيث كان زاخراً بالحياة، أما في الجهة المقابلة فكان جامع الوسيم الذي
اشتهر بساحته التي ضمت في يوم من الأيام عشرات الآلاف من ابناء المخيمات الفلسطينية
يوم تشييع شهداء مسيرات العودة وغيرها من المناسبات، قد أصبح بلا مئذنة وناله من الدمار
الكثير الكثير.
أحسست بغصة وبثقل
في صدري وأمسكت دموعي وحبست انفعالاتي ومضيت برفقة الوفد قدماً مسترجعاً شريط ذكرياتي
حتى وصلت إلى تقاطع شارع الثلاثين مع شارع اليرموك حيث مشفى فلسطين ومحلات البقالة
وماركت السلام وغيرها من المعالم التي لم تعد حاضرة هناك.
تسارعت نبضات قلبي
مع اقترابي من حارتي إلا أنني لم أستطع تمييزها للوهلة الأولى حيث سويت مداخل الحارات
بالأرض وتهدم معظمهما فأخذت أعد الحارات واحدة واحدة حتى عرفت المدخل المؤدي إلى بيتنا.
كان المشهد رهيباً،
فلم أجد حارتي النظيفة المرطبة بالماء، الخالية من النفايات، النابضة بحيوية أهلها،
ولم أجد صالون خالد ولا جارنا أبو توفيق ولا أبو ماهر ولا أبو عاطف ولا أبو ابراهيم
ولا غيرهم من الجيران! فقط وجدت أنقاض بيوتهم ولافتات محلاتهم، عندئذٍ راودتني نفسي
أن أرجع فما قيمة هذا المكان بدون أهله وهل سترد على السلام حجارة بيوتهم؟؟؟ وكيف سيكون
شعوري وأنا أقف أمام بيتي الذي ظهر لي من بعيد على شكل كومة من الحجارة التي لا ترتفع
عن الأرض سوى متر واحد أو أكثر بقليل؟
حاولت المضي للأمام
إلا أن بقايا قضبان الحديد البازرة من سقف بيت الجيران المتهدم علقت ببنطالي وشدتني
للخلف مما جعلني استيقظ من نومي فزعاً حامداً الله أنه كان حلماً.