القائمة

مواقع التواصل الأجتماعي
الإثنين 25 تشرين الثاني 2024

حدث في مطار اسطنبول

حدث في مطار اسطنبول

بقلم: ماجد الزير

لو لم أكن شاهداً على ما حصل، وكنت جزءاً من تفاصيلها، لما صدقت حكاية كهذه، ولحسبت أنها من مخيلة ما يسرده البعض لغرض التنويع في أحاديث مجالس السمر أو ما شابهها.

ففي صحبة الصديق الشريك الأستاذ عادل عبدالله؛ الأمين العام لمؤتمر فلسطينيي أوروبا، كنا مغادرين مدينة اسطنبول عبر مطارها الدولي، غير المزدحم، على غير عادته، في مساء يوم من أواخر أيام كانون الأول (ديسمبر) من العام المنصرم 2011. وإذا بأحد ضباط الأمن بزيّه الرسمي «الميري» يفتح لنا الطريق عند وصولنا للمساحة المخصصة لتدقيق الجوازات، ومرحّباً بالعربية «أهلا وسهلاً». تاركاً خلفه زميلين كان يتحدث معهما في لحظة استراحة.

سار معنا خطوات باتجاه نقطة العبور الرسمية «الكابينة» لإتمام إجراءات السفر. وإذا به يبادر رفيقي الذي يتقدمني «من أين أنتم؟» بالعربية أيضاً!.. ومع سماعه الجواب «من فلسطين» انتفض الرجل وقال «ما شاء الله»، وانكب على يديّ الأستاذ عادل يقبلها. تملكتنا الدهشة وانتزع رفيقي يده من يدي ضابط الأمن الذي بدا في قمة السعادة والغبطة والتأثر بهذا اللقاء! «لقد استُشهد جدي في فلسطين»، موضحاً أحد اسباب هذا التهليل.

ويكمل حفيد الشهيد، في تعبيره عن مشاعره، وهو يرتب جلوسه إلى مكتبه، ويفصل بيننا حاجز زجاجي مفتوح من وسطه بنصف متر. ثم يقلب الجواز الفلسطيني الذي يحمله الأستاذ عادل؛ الترشحاوي ابن مخيم برج البراجنة الذي استقر منذ ما يزيد على عشرين سنة في العاصمة النمساوية فيينا، «أنا جدي الأكبر عبد القادر الجيلاني» يفصح الضابط عن أصوله العزيزة عليه. وينتزع نفسه من داخل مكتبه مخرجاً جسمه من الحاجز الزجاجي خاطفاً كلتا يدي الأخ عادل مقبلاً لهما بحرارة عدّة مرات. في مفاجأة وقعت على كلينا كالصاعقة. أجهش رفيقي بالبكاء وبدأ الضابط يربّت على كتفه محاولاً التخفيف عليه من شدّة ما رأى من تأثره.

لم تنته فصول حكاية ضابط المطار التركي سليل أسرة الجيلاني وحفيد شهيد القدس. طلب منا رافعاً يديه نحو السماء أن ندعو له أن يستشهد في المسجد الأقصى. ثم خرج من وراء مكتبه مودعاً لنا باحتضان حار، مكرراً الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ما الذي استدعى كل هذه المشاعر الجياشة التي أنست الرجل وظيفته «التي قد يفقدها بهكذا تصرف»، وأنسته مكانه وزمانه ليعيش أجواء ظرفيةً أخرى؟ إنها فلسطين وحب فلسطين. والتي تُشرّف كل من ينتسب لها. ليس صاحبنا منبتّاً من مجتمعه. هو يعبر عن حال شعب. ومن خلاله شعوب العالم الاسلامي بل والأممي ممن يتوق إلى الحق والعدل وأحب فلسطين لهذا.

الأجواء السياسية التي بدأت تتغير في المنطقة مع الربيع العربي وقبلها في تركيا، وقبل هذا وبعده تضحيات الشعب الفلسطيني في الداخل التي تذكر العالم بفلسطين صباح مساء، قد شجعت الشعوب والطبقات المختلفة أن تعبّر عن مشاعرها وآرائها تجاه فلسطين بحرية ومن دون تردد. وهذا يعني أن ساعة رجوع الحق الفلسطيني لأصحابه باتت قريبة.

يبقى أن نقول لأهل فلسطين في داخلها وخارجها وحيثما حلوا وارتحلوا، إنهم يحملون أمانة عظيمة في الحفاظ على هذه الصورة المشرقة في عيون الهائمين فيها من شعوب الأرض.