القائمة

مواقع التواصل الأجتماعي
الثلاثاء 26 تشرين الثاني 2024

حرب نتنياهو على غزة لم ترمم ردعاً وخلقت ردعاً مقابلاً

حرب نتنياهو على غزة لم ترمم ردعاً وخلقت ردعاً مقابلاً

بقلم: حلمي موسى

شنت "إسرائيل" الحرب على قطاع غزة في ظروف ليست نموذجية أبدا من ناحيتها. والأمر لا يتعلق بالقوة المجردة وإنما بالظروف المحددة التي تحيط أو قد تحيط باستخدام القوة ومقتضياتها. فالانتخابات الإسرائيلية على الأبواب من ناحية، والظروف الإقليمية والدولية تنطوي على قدر من الغموض يجعل الحرب من وجهة نظر قادة "إسرائيل" عموما خطوة غير حكيمة. وتزداد حدة المفارقة حينما يتضح أن احتمالات تحقيق إنجاز واسع متدنية لأسباب كثيرة، ليس أقلها أهمية أن حكومة نتنياهو لا تحمل أي برنامج سياسي للتسوية يمكن أن يشجعه العالم ويقبله الفلسطينيون. ومعروف للجميع التهديدات التي توزعها حكومة نتنياهو على العالم بإلغاء اتفاقيات أوسلو إذا أصر الفلسطينيون على نيل الاعتراف بهم كدولة من الشرعية الدولية.

والمسألة في نظر الكثيرين لا تتعلق بموازين القوى العسكرية بين المقاومة الفلسطينية في القطاع وإسرائيل. فالكفة راجحة من هذه الناحية لإسرائيل وليس هناك من يجادل في ذلك. ولكن المعركة ليست فقط عسكرية وهي في جوهرها إرادوية وسياسية بامتياز، لأن معركة غزة ليست إلا أحد أهم وجوه القضية الفلسطينية بتعابيرها الإنسانية والمعنوية والدولية. ولا يعني ذلك أن لا قيمة لقوة المقاومة، التي لولا قوتها لما بقي معنى لتعابير هذه القضية. ويمكن لمن يريد أن يراجع مسيرة اتفاقيات أوسلو والمستوى الذي بلغته السلطة الفلسطينية في علاقاتها، سواء مع "إسرائيل" أو مع الأسرة العربية والدولية. لقد وفرت قوة المقاومة للشعب الفلسطيني مدخلا لإعادة الاعتبار للقضية الفلسطينية في وقت تراجع فيه الاهتمام بهذه القضية إلى أدنى مستوى. والصحيح أن المقاومة، بأشكالها المختلفة العسكرية والشعبية، كانت على الدوام الرافعة الأهم لاهتمام العالم بهذه القضية وهموم شعبها.

وإسرائيل تعرف ذلك لكنها في كل مرة تحاول تجريب المجرب بطريقة أخرى. فهي من ناحية لا تريد التوصل إلى تسويات سياسية مع الفلسطينيين وتمارس في كل يوم سياسة فرض الوقائع على الأرض، ليس فقط استيطانيا وإنما في النفوس أيضا لتطويع إرادتهم، وتعمل من ناحية أخرى على كسر مقاومتهم. وكما رأينا تذهب إلى آخر الدنيا لتقصف قافلة وتجند الدول الغربية لمهمة مكافحة حق الفلسطينيين في تنمية أسباب قوتهم. ولكن ذلك لم يغير من واقع الأمر شيئا، لأن الفلسطيني الذي فقد، على الأقل في قطاع غزة، الاحتكاك المباشر بالإسرائيلي، صار يبحث عن سبل الاحتكاك غير المباشر به. هذا جرى بأساليب مختلفة، بعضها استخدم باطن الأرض التي حفرها أنفاقا للجانب الآخر، وبعضها الآخر اختار تطوير الصواريخ.

وكما تبين، خلال سنوات قليلة تراكمت في غزة خبرة لإنتاج صواريخ بات مداها يزيد عن 80 كيلومترا وتغطي ما يقرب من نصف أراضي فلسطين، وفيها المناطق الأشد اكتظاظا بالسكان. وعمدت "إسرائيل" إلى الإيحاء بأن الأمر الوحيد الباقي لمواجهة ذلك يتلخص إما في العودة لتجريب المجرب واحتلال قطاع غزة أو البحث عن ردع يوفر هدنة تأمل أن تطول. والواقع أن "إسرائيل" حاولت من خلال عملية «الرصاص المسكوب» قبل أربعة أعوام أن تجسد سياسة «كي الوعي» التي تعتقد أنها ستمنحها الراحة لأطول فترة ممكنة.

غير أن «كي الوعي» في 2008-2009 في غزة لم يدم طويلا. وتواصلت عملية التآكل في الردع الإسرائيلي بتدرّج من صاروخ هنا وآخر هناك إلى صليات وتفاهمات واتفاقات حول وقف النار. وكانت "إسرائيل" من جهة، والمقاومة من جهة أخرى، تسعيان إلى تعديل «قواعد اللعبة» كل لمصلحتها طوال الوقت. ومؤخرا حاولت "إسرائيل" قلب الطاولة وفرض قواعد جديدة. ولكن الظروف، كما سبق، كانت قد تغيرت.

من جهة حماس باتت أكثر سيطرة على الوضع في قطاع غزة. واستطاعت هي وبعض فصائل المقاومة، خصوصا حركة الجهاد الإسلامي، تهيئة نفسها لمواجهة تستفيد من عبر الحرب السابقة وأخطائها. وحشدت لذلك قوة و«مفاجآت» كان من بينها وأبرزها قصف تل أبيب ومحاولة قصف القدس الغربية أو الكنيست على وجه التحديد. بل تعترف أوساط استخبارية إسرائيلية بأن المقاومة في القطاع حشدت وأعدّت أشراكاً فتاكة للدبابات والآليات الإسرائيلية إذا فكرت في الاقتحام البري.

ولكن لا يمكن اعتبار أن هذه القوة وحدها هي ما يجعل الإسرائيلي يتردد في الدخول البري. فالوضع الإقليمي عموما والوضع المصري على وجه الخصوص يشكل ثقالة لا يستهان بها على القرار الإسرائيلي. كما أن نتائج «الرصاص المسكوب» وتقرير غولدستون والجهد الهائل الذي بذلته منظمات حقوق الإنسان الفلسطينية والدولية لملاحقة مجرمي الحرب الإسرائيليين في أرجاء العالم قضائيا شكلت ثقالة أخرى حالت دون أن يشعر الجيش الإسرائيلي بالحرية في استهداف المدنيين. ويمكن ملاحظة أن إحدى عبر حربي لبنان وغزة دفعت حركات التضامن في العالم للتحرك ضاغطة على حكوماتها قبل أن تقع المجازر وليس انتظار وقوعها.

وكل هذا جعل وضع حكومة نتنياهو بالغ الحرج في كل ما يتعلق بالخطوة التالية: هل تعيد احتلال القطاع كليا أم جزئيا أم تكتفي بما حدث حتى الآن وتقبل التهدئة؟

اتصالات كثيرة تجري على مستويات مختلفة. والتهدئة احتمال مرجح لكن السياسة تحتمل الحماقة. وقد يتجه نتنياهو إلى الأمام هاربا من الوضع الراهن، وحينها ستدخل المنطقة بأسرها في المجهول. ولكن مهما كانت الوجهة، لا تشعر غزة ومقاومتها أن لديها ما تخسره. لقد فعلت ما كان يهتف من أجله العرب طوال عقود: قصفت تل أبيب. وهي تمتلك القدرة على تكرار ذلك متى شاءت.

المصدر: السفير