حركـة فتح وواقـع المخيمات في لبنـان
بقلم: رفعت شناعة
لا أحد ينكر أهمية الدور المركزي والمحوري الذي تقوم به حركة فتح في لبنان منذ بداية ظهورها العلني العام 1969 وتحديداً من مخيم نهر البارد ثم انتشارها في باقي المخيمات، وهذا الظهور العلني سبقه عمل تنظيمي وعسكري أخذ الطابع السري، ثم أخذ بالتشكُّل العملي شياً فشيئاً بعد معركة الكرامة في 21/3/1968 والتي شكَّلت مفصلاً تاريخياً في مسيرة الثورة الفلسطينية. ونظراً للدور القيادي والمميَّز لقيادة حركة فتح في هذه المعركة التاريخية والنصر المؤزر على العدوان الإسرائيلي كان الالتفاف الجماهيري الواسع حول تنظيم حركة فتح مما جعلها الأوسع شعبيةً، والأكثر شمولية، باعتبار ما تتضمنه نظرية حركة فتح الثورية هو توحيد كافة الجهود الوطنية من كافة الشرائح والمعتقدات في المعركة ضد الاحتلال، أما المضمون الاجتماعي للمجتمع الفلسطيني فيقرره الشعب الفلسطيني بعد التحرير.
إنَّ الانجازات التي حققتها حركة فتح رسَّخ حقيقة جوهرية جعل منها العمود الفقري لمنظمة التحرير الفلسطينية، حيث أثبتت المنظمة ذلك عملياً من خلال تحمُّلها العبء الأكبر من الجهود في مواجهة التحديات التي هدفت إلى تدمير بنية المنظمة والقضية سواء العدوان الواسع على جنوب لبنان وصولاً إلى بيروت في 1982، أو الانشقاق الذي حصل في العام 1983 وغيرها من المحطات، أو أحداث المخيمات.
حضور حركة فتح المميز في الأحداث وتطوراتها هيّأها لتكون في الموقع القيادي الأول وبالتعاون مع مختلف الفصائل والأطر الفلسطينية للحفاظ على صيغة العيش المشترك، وضمان أمن واستقرار المخيمات. فحركة فتح هي التي أدت دوراً مميَّزاً على صعيد تكوين، وبرامج عمل اللجان الشعبية ودعمها للقيام بمهامها الاجتماعية والحياتية والعلاقات العامة. كذلك حافظت حركتنا على البرنامج السياسي للمنظمة، وعلى وحدانية التمثيل للشعب الفلسطيني، من خلال التعاون والتعامل مع مختلف الفصائل الفلسطينية في المناطق وفي المخيمات وبوضع اسس التعاطي مع الحكومة اللبنانية. لان على عاتقها تقع المسؤولية الأولى بما يتعلق بأوضاع المخيمات في لبنان، وهذا يقودنا حتماً إلى السؤال الجوهري: ما هو المطلوب للحفاظ على الدور المركزي المنوط بالمخيمات حتى تستطيع مواكبة التطورات السياسية والنهوض بالمهمات الوطنية؟
أولاً: من الضروري تعزيز دور الأطر المشتركة، واللجان العاملة في إطار المخيمات، وإنجاح برامجها، وتمكينها من أخذ دورها بعيداً عن الخلافات السياسية الفصائلية باعتبار أن المصالح الوطنية العليا لشعبنا فوق كافة الاعتبارات.
ثانياً: إشراك المجتمع المحلي في إطار اللجان العاملة على اختلافها حتى يكون جزءاً من عملية التوجيه والمعالجة، لأنه معنيٌّ بشكل أساسي بالتطورات، والتحولات، والمعالجات.
ثالثاً: تفعيل دور المنظمات الشعبية لأن الاتحادات القائمة هي المجتمع بحد ذاته، ولكن هناك فارق بين أن تكون هذه الاتحادات صاحبة برامج نقابية وشعبية مدروسة ومنتجة، وبين أن تسود حالة من الروتين، والتعاطي الشكلي، أو انتظار المناسبات للاحتفال بها، والذي يضمن سلامة المنهج التطبيقي والعملي هو أن تكون المؤتمرات النقابية فرصة للتقييم الصادق بعيداً عن المجاملات، وأن تضع هذه المؤتمرات البرامج والتصورات والخطط المطلوبة، وبالتالي اختيار الأكفأ والمؤتمن على تنفيذ هذه البرامج.
رابعاً: تفعيل دور اللجان الشعبية والتي فيها تتمثل الاتحادات الرئيسة، هذه اللجان معنية بمتابعة مختلف القضايا الاجتماعية، والإشكاليات اليومية التربوية، والصحية، والبنيوية، والتعاطي مع الأطر السياسية والأمنية بما يخدم المخيم الفلسطيني.
خامساً: اعتماد اللجان الأمنية المشكلة من مختلف الفصائل والتي تنال ثقة الجميع، وأن يكون قرارها ملزماً حتى يكون بإمكانها ملاحقة ومتابعة العناصر المسيئة، والتي تشكل خطراً على أبناء المخيم، وتوقيفها للتأكد من مدى تورُّطها في مثل هذه الإساءات أو التعديات، وبالتالي وحسب حجم المشكلة القائمة يؤخذ القرار النهائي، لأنه لا يمكن ضبط أي مجتمع وحماية أبنائه إلاّ بوجود سلطة أو جهة معنية مُكلفة ولديها صلاحيات.
سادساً: لا بد أن تكون هناك صيغة محددة لدى القيادات الفلسطينية حول التعامل مع مختلف المؤسسات والجمعيات الاهلية والدولية المنتشرة في المخيمات، والتي تمتلك الإمكانيات، ولديها برامج محددة، واهتمامات متعددة. كذلك فان التواصل الدائم والمسؤول مع هذه الجمعيات يساعد في ضبط البرامج، وإجراء تعديلات عليها بما يخدم المجتمع الفلسطيني، ولا يتعارض مع العادات والتقاليد الاجتماعية، ويكون مكمِّلاً لما تقوم به اللجان والأطر الفلسطينية، وأن تُصرف الإمكانيات المرصودة في تقديم خدمات، أو تطوير مراكز معنية، أو استهداف فئات وشرائح اجتماعية لتطوير أدائها المهني، أو سلوكها التربوي أو تأهيلها في مجال عملها.
سابعاً: ما سبق من قضايا أساسية تتعلق بالوضع الداخلي الفلسطيني، لكنَّ العامل الآخر والمهم والمكمِّل لما سبق ذكره هو الجانب الأمني ومحاولات التفجير والاغتيالات التي تلجأ إليها بعض العناصر المشبوهة، والتي تسمم أجواء المخيمات، وتؤثر على الحركة الاجتماعية داخلها، وتتسبب أحياناً في تعطيل المدارس وشل الحركة الاقتصادية. لكن ما ثبت عملياً أن القوى الفلسطينية الأساسية في المخيمات لا علاقة لها بمثل هذه العقلية الإجرامية وإنما هي ضحية لها. والذي كان وما زال يبشر بالخير هو أن كافة القوى الوطنية والإسلامية الأساسية في المخيمات تتداعى مباشرة، وتلتقي، وتأخذ الإجراءات الفورية للمعالجة والمحاسبة، وإنهاء كافة ذيول المشكلة، واستعادة الهدوء، وهذا التعاون الشامل جاء بعد حوارات بين حركة فتح وفصائل "م.ت.ف" من جهة وقوى التحالف والقوى الإسلامية من جهة ثانية وخاصة في مخيم عين الحلوة.
ثامناً: إن العلاقة التي تربط القيادة الفلسطينية مع الدولة اللبنانية رسخها الرئيس أبو مازن من خلال زياراته المتعددة إلى لبنان ولقاءاته مع الرئاسات الثلاث، والتأكيد على أننا تحت سيادة القانون، وأننا لا نتدخل في الشؤون الداخلية اللبنانية، وأن ما يهمنا هو تحييد مخيماتنا عن أية صراعات أو احتكاكات، أو تجاذبات. وعلى هذا الأساس كان التواصل الدائم مع الجهات اللبنانية المعنية بمتابعة الأوضاع الأمنية، والتعاون والتشاور بخصوص مختلف التطورات بهدف ضبط أوضاع المخيمات من جهة، وضبط العلاقة مع الجوار اللبناني، وهذا التواصل والتشاور مع الجهات اللبنانية الحكومية والأمنية تمارسه الأطر الفلسطينية المشتركة، كما تقوم به أيضاً كافة القوى الفلسطينية الوطنية الإسلامية، وهناك لغة واحدة يتم التحديث بها وهي أمن المخيمات والجوار اللبناني والسلم الأهلي اللبناني. هذه العلاقة أوجدت ارتياحا عند الجميع، وإذا كانت هناك من أزمات تتم اللقاءات مع قيادات مركزية من رام الله لتذليل الصعوبات. ولا شك أنَ هذه ألصيغه من العلاقات مع الدولة هي وليدة الظروف السائدة وهي أن أجهزة الدولة وجيشها لا يدخلون المخيمات حتى الآن بقرار من الدولة، ولذلك تتم عملية التعاون لمحاربة أية عمليات تخريبية أمنية أو اجتماعية في المخيمات والقيادة السياسية في المخيمات هي التي تقرر تسليم الحالات المدانة إلى الدولة اللبنانية.
تاسعاً: القيادات الفلسطينية برمتها تسعى جادة لمعالجة الأوضاع المعيشية الاقتصادية والاجتماعية لتحقيق المزيد من الاستقرار النفسي في المخيمات الفلسطينية، لأن الأزمات المعيشية والاجتماعية تقود إلى الخلل الأمني. ومن هذا المنطلق تأتي ضرورة التصعيد ألمطلبي بالحقوق المدنية والإنسانية الفلسطينية وخاصة حق العمل في المهن التي يمنع الفلسطيني من مزاولتها، إضافة إلى حق التملك للفلسطيني المقيم في لبنان، لان حرمان الفلسطيني من حق التملك أمرٌ غير مقنع حتى للكثير من اللبنانيين، وهذا ما يعبرون عنه حزبياً ومن مواقعهم التي يشغلونها، وليس هناك من مبرر إطلاقاً أن يُمنع الفلسطيني من أن يمتلك شقةً يسكن فيها هو وأبناؤه، مما يشكل مصدر قلقاً للإنسان الفلسطيني ومصدر إحباطاً ويأساً، حيث يُعاقَب بغير ذنب.
عاشراً: قامت قيادة م.ت.ف. بتوجيهات من الرئيس أبو مازن بمجموعة مبادرات من شأنها تحسين الأوضاع الاجتماعية، وتخفيف المعاناة. المبادرة الأولى تجسَّدت في إنشاء صندوق الرئيس الذي يقدم دعماً لكافة الطلاب الجامعيين في لبنان من السنة الأولى والثانية والثالثة دون تمييز بين طالب وآخر، وإنما حسب الاستمارات والنقاط المحددة. والمبادرة الثانية كانت في إنشاء صندوق التكافل الاجتماعي بين أسر ميسورة من الداخل وأسر من المخيمات أوضاعها المعيشية صعبة، والعدد الآن بلغ حوالي ألف ومئتي أسرة يُدفع لكل حالة شهرياً مئة دولار. أما المبادرة الثالثة فهي مشروع القروض من أجل التمكين الاقتصادي، وهذا المشروع يلاقي نجاحات واسعة، وأوجد فرصاً متاحة للعمل عند بعض الأسر المحرومة. أضف إلى ذلك الإيعاز إلى الضمان الصحي الفلسطيني المخصص لمعالجة المفرغين على كشوفات الأمن الوطني من كافة الفصائل من أجل المساعدة في معالجة الحالات المدنية بنسبة معينة. وعلى هذا الصعيد ننتظر دعم مؤسسة الهلال الأحمر مركزياً من أجل تأهيل مستشفياته، ومستو صفاته بكل مكوناتها، وفي كافة المناطق حتى يكون بالإمكان التخفيف من معاناة المرضى، والأمل كبير بأن يكون هناك مستشفى مركزي مؤهل لمعالجة كافة الأمراض يتم الاستعانة به للتخفيف من التكاليف الباهظة والخيالية التي تطالب بها المستشفيات.
المطلوب من حركة فتح أولاً ومن باقي الفصائل الفلسطينية تفعيل وضبط الأطر التنظيمية حتى تكون قادرة على النهوض بالواقع الاجتماعي في المخيمات والتجمعات الفلسطينية في أماكن تواجدها خاصة في المدن الرئيسة مثل صيدا وصور وبيروت وطرابلس وبعلبك. وعندما أضع حركة فتح أولاً فلأنها المعنية بالتعاطي مع مختلف الأزمات، وقيادة التحركات السياسية أو المطلبية. كما أن المطلوب من حركة فتح أن ترتقي بأدائها التنظيمي حتى يكون بمقدورها ممارسة دورها القيادي المعهود، وخوض الحوارات البنَّاءة مع جميع الشرائح، وخاصة الشريحة الشبابية الناشئة، والميَّالة باستمرار إلى طرح الأفكار النقدية والإصلاحية، والتغيرية، والتطويرية، فهذه القضايا بحاجة إلى حوار جاد ومسؤول لتوضيح الأمور، ووضعها في إطارها الصحيح والتخلص من بعض الشوائب العالقة، وتحصينها حتى تبقى هادفة ومجدية.
ولعل التجارب الأمنية التي مرَّت بها مخيمات لبنان خلال العام 2012 كانت دليلاً واضحاً على حالة الاحتقان ابتداءً من مخيم نهر البارد الذي ما زالت إعادة إعماره في المرحلة الأولى وتترنح تحت ضغط عدم وفاء الدول المانحة بدفع ما تعهدت به، وما يجب أن تدفعه لاستكمال إعادة الإعمار وإنهاء هذه المأساة الإنسانية، ومثل هذه الحالة وجدت تعاطفاً من كل المخيمات التي شهدت الاعتصامات التضامنية، وان كان بعضها قد جنح إلى العنف لكن القيادة الفلسطينية تمكنت في النهاية من ضبط الأمور، والتواصل مع قيادة الجيش لإنهاء حالة التوتر.
إنَّ الواجب الوطني يفرض على جميع القوى الوطنية والإسلامية حماية المخيمات الفلسطينية، ونشر الطمأنينة والاستقرار حتى يتمكن الأهالي من القيام بالواجبات الوطنية المطلوبة منهم، وخاصة ما يتعلق بموضوع تنفيذ حق العودة إلى الأراضي التي طردنا منها وذلك استناداً إلى ما جاء في القرار 194، والمراهنة الأكبر هي على الوجود الفلسطيني في لبنان، بأن يكون الفلسطينيون هنا في حراك شعبي وإعلامي وسياسي دائم من أجل إبقاء تنفيذ هذا الحق حيوياً وملزماً لكافة الجهات المعنية العربية والدولية والضغط الفعلي على الكيان الإسرائيلي من أجل تنفيذ قرارات الشرعية الدولية. آن الأوان أن نخضع الكيان الإسرائيلي للمساءَلة والمحاسبة، وان لا يبقى هذا الكيان العنصري العدواني فوق قرارات الأمم المتحدة.
المصدر: مجلة القدس