حق العودة الفلسطيني وروح الانتماء اليهودي
بقلم د. مصطفى يوسف اللداوي
يراهن الإسرائيليون على الأجيال الفلسطينية القادمة أن تنسى حقها في فلسطين، وأن تتوقف عن حلم العودة إليها، والإقامة فيها، والمطالبة بها، والمقاومة لاستعادتها، والتضحية لأجلها، فيضيقون الحياة على أهلها ليهربوا منها، ويتخلوا عنها، ويهاجروا منها بحثاً عن مصدر رزقٍ، أو مكان إقامة، لتخلوا لهم لأرض من بعدهم، وتطيب لهم الإقامة فيها، فلا ينازعنهم عليها أحد، ولا ينغص عيشهم فيها إنسان، فيتحقق حلمهم بوعد بلفور المشؤوم بأرضٍ بلا شعب لشعبٍ بلا أرض، إنهم يخشون الإنسان الفلسطيني، ويرون في حق العودة سماً زعافاً يقتلهم، وسيفاً قاطعاً يمزق دولتهم، وسلاحاً فتاكاً يقضي على أحلامهم، ويتحدى قدراتهم.
يخشى الإسرائيليون من حق العودة، ويعتبرونه قضية مقدسة يُجرم من يتنازل عنها أو يساوم عليها، ويرفضون أي مساسٍ بها أو تصرفٍ فيها، كونها حقٌ فردي لكل إنسانٍ فلسطيني، لهذا يخطط الإسرائيليون لتنفير الفلسطينيين والتضييق عليهم وتيئيسهم، ويعملون على تهجيرهم ورحيلهم، فيشنون الحروب عليهم، ويمارسون في حقهم مختلف أساليب البطش والقمع والإهانة ظناً منهم أن من بقي من الفلسطينيين سيهاجر، وسيطوي فراشه ويرحل، وسيتخلى عن موطنه وبيته، وسينبت عن ماضيه، وينقلب على تاريخه، وقد عمل الإسرائيليون كثيراً لتحقيق هذا الهدف، وجاهر به بعض قادتهم وأخفاه آخرون، لكنه يبقى لهم جميعاً حلماً وأملاً.
أما فلسطينيو الشتات فيعتقد الإسرائيليون أن حلم العودة عندهم يموت مع الزمن، وتنساه الأجيال مع الأيام، وأن الكبار يموتون والصغار ينسون، ولن يبقى مع الأيامِ أحدٌ يتمنى العودة، أو يحلم باستعادة أملاك أجداده وأرض آبائه، وأنهم سيفضلون رغد العيش ونعيم الحياة، وسيصعب عليهم التخلي عن طيب الإقامة وفيض العطاء في بلاد المهاجر، وسيكون منهم نسلاً أعجمي اللسان غريب الطباع، لا يعرف بلده، ولا يتقن لغة أهله، ولا يعرف معنى الإنتماء، ولا يؤمن بحق العودة، ولا يقدر تضحيات السابقين، ولا مقاومة المعاصرين، وقد يُسر الإسرائيليون إذا انغمس فلسطينيو الشتات في الحياة العامة، وأصبحت لهم مناصبٌ ووظائف، وتجارة وعقارات وممتلكات يخشون عليها، ويحرصون على سلامتها واستمرارها، ظناً منهم أن زخرف الحياة وزيف الدنيا ينسيهم آيات القران وعقيدة الإيمان.
يخطئ الإسرائيليون كثيراً عندما يفكرون يهذه الطريقة، وعندما يظنون أن الأجيال الفلسطينية تنسى، وأن المهاجرين الفلسطينيين لا ينتمون إلى وطنهم، ولا يحلمون بالعودة إليه، ولا يوجد ما يربطهم به، ويخطؤون أكثر عندما يعتقدون أن الأطفال لا يعرفون بلداتهم الأصلية، ولا يحفظون أسماء قراهم والقرى المجاورة، وأنهم لا يعرفون مواقعها والكثير من تفاصيلها، إذ لا تكاد تجد طفلاً لا يعرف بلدته الأصلية، ولعل استبياناً بسيطاً بين جموع أطفال فلسطين في الوطن والشتات يؤكد هذه الحقيقة، بل إن الفلسطينيين ما زالوا يحرصون على التزواج من أهل بلداتهم، ويتفاخرون بالنسب بينهم، ويحفظون عن كل بلدٍ ما يميز رجالها ونساءها، وتكون صفات البلدة أساساً في القرار قبولاً أو رفضاً للزواج.
أما الإسرائيليون فإنهم يفقدون مع الأيام وساوس الانتماء إلى الأرض الموعودة، وتنقطع عراهم بالأرض المقدسة، ويستسخفون التضحية من أجلها، ويرفضون التخلي عن ملذات الحياة للدفاع عنها، ويهولهم الموت في سبيلها، ويشغلون جل أوقاتهم في إشباع ملذاتهم، ومضاعفة ثرواتهم، وتحسين مستوى حياتهم، وتشغلهم الرفاهية وتقلقهم الحروب والأزمات، ينغمس شبابهم في مرابع المتعة بحثاً عن عشيقة، أو انشغالاً في هاتفٍ أو سيارة، وقد مات قادتهم التاريخيون وزعماءهم الكبار، ممن ساهموا في تأسيس الكيان، وعملوا على إشباع شبابهم بالوعد الإلهي لهم، فضعف عند أجيالهم والكثير من شبابهم حلم الأرض الموعودة، ووجوب الحفاظ عليها والتضحية من أجلها.
تمضي الأيام وتتوالى السنون فتذوي الأحلام الإسرائيلية، وتتهاوى الخرافات اليهودية، وتسقط المخططات الصهيونية، بينما يزداد الفلسطينيون يقيناً بأرضهم، ويتعاظم حلمهم بالعودة إلى بلادهم، ولا تنسيهم ملاذ الدنيا ومتع الحياة حلم العودة إليها، وإن منهم كباراً في مناصبهم، عظماء في مواقعهم، أغنياء في مغترباتهم، ومتميزون في مراكزهم، ولكن هذا النجاح لا يغريهم، وهذا التميز لا يفتنهم عن وطنهم، ولا يحرفهم عن يقينهم، ولعل الأجيال الفلسطينية الطالعة أشد بأساً ممن سبقها، وأقوى شكيمةً ممن مضوا، وأكثر يقيناً ممن رحلوا، وإن قادتها الشبان يبزون قوةً شيوخها الحكماء، وينافسون آباءهم عوماً ومضاءً، ويثبتون لهم بثباتهم ويقينهم أنهم خيرُ خلفٍ لخير سلف، وأنهم لم يخونوا الأمانة ولم يفرطوا فيها، وأن الراية التي حملوها لن تسقط، واليقين الذي ورثوه لن يضعف.