القائمة

مواقع التواصل الأجتماعي
الأربعاء 27 تشرين الثاني 2024

حق العودة في خطاب حماس: من البيان الأول إلى خطاب مشعل

حق العودة في خطاب حماس: من البيان الأول إلى خطاب مشعل


ساري عرابي / رام الله

تأسست حركة المقاومة الإسلامية "حماس"، بالأساس داخل فلسطين، مع وجود دور مركزي للإخوان المسلمين من أصول فلسطينية في الخارج في هذا التأسيس، وفي الدعم والإسناد والقيادة، لكن الجسم التنظيمي للحركة وُلد داخل فلسطين، وبقي جسم الحركة في الشتات الفلسطيني أقرب لأجهزة الدعم والإسناد، من البنية الجماهيرية التنظيمية، وهذا إلى حدٍّ ما انعكس في خطاب الحركة، الذي تطور بتطور الحركة وتوسع مسؤولياتها، وعلاقاتها، وموقعها في قيادة المشروع الوطني. بينما تأسست كل فصائل الحركة الوطنية الفلسطينية، السابقة على حركة حماس، في الشتات الفلسطيني، الذي منه كان جسدها التنظيمي، وكادرها الأساسي، وأجهزتها المختلفة، حتى كانت الثورة الفلسطينية، إلى حين خروجها من لبنان في عام 1982 ثورة لاجئين، بينما كان الفلسطينيون في الداخل يعيشون على أمجاد (الفدائيين) في الأردن أو في لبنان. وكانت أدبيات حماس الأولى، سواء البيانات، أو الميثاق قد كتبت داخل فلسطين حصراً، وعكست بوضوح، الظروف التي تأسست فيها الحركة، والنافذة التي تنظر من خلالها قيادة الحركة في ذلك الحين إلى القضية الفلسطينية، والحيّز الذي كان يمكن هذا النظر أن يتوسع فيه، والمدى الذي يمكن أن يصل إليه.

ولعل هذا ما يفسر غياب أي ذكر لمفردات: (حق العودة)، (الشتات)، (اللاجئون)، في ميثاق "حماس"، بينما خلت كذلك البيانات الأولى، من أيِّ ذكر لهذه المفردات، بينما تضمنت مفردة (المخيم). فمثلاً جاء في البيان الأول لحركة "حماس"، الصادر بتاريخ 14/12/1987: "ارفعوا أيديكم عن شعبنا – عن مدننا – عن مخيماتنا – عن قرانا، معركتنا معكم معركة عقيدة ووجود وحياة"، وكان واضحاً أنّ المقصود مخيمات الداخل، وكما أن البيان الثاني الذي لم يخل من مفردة (المخيمات) في سياق الحديث عن تقديم المساعدات للمحاصرين في المدن والمخيمات، فإنه كان لافتاً في مفتتح البيان، هذا النص الذي خلا منه ذكر الشعب الفلسطيني في الشتات: "هنا صوت الإسلام، صوت الشعب الفلسطيني كله في الضفة والقطاع وباقي أرض فلسطين، هنا صوت البركان المتفجر المتصاعد يوماً بعد يوم، حتى يندحر الأعداء ويتحرر الوطن وترتفع راية الإسلام على أرض فلسطين عالية خفاقة". واللافت هو حصر الشعب الفلسطيني (كله) في (الضفة والقطاع وباقي أرض فلسطين)، مع أن الملايين من الشعب الفلسطيني يعيشون خارج فلسطين.

هذا والبيان الثاني، صادر في شهر كانون الثاني 1988، وهو والبيان الأول، كُتبا ووُزعا في قطاع غزة حصراً، ولم يصلا إلى الضفة الغربية، فليس غريباً ألّا تغيب مفردة (المخيم) عن هذين البيانين، الصادرين من القطاع الذي يشكل اللاجئون في مخيماته القسم الأكبر من سكانه، كذلك كانت المخيمات صاحبة الدور الأبرز في الانتفاضة الأولى، سواء في قطاع غزة أو الضفة الغربية.

هذه الأدبيات الأولى تكشف بنحو جليّ عن أثر الجغرافيا وحدود التحرك الفيزيائي في الحدّ من مدى التفكير، وحصار لغة الخطاب، من دون قصد واعٍ لذلك، فإن قيادة حماس الأولى، التي كانت من قطاع غزة والضفة الغربية، وكان متاحاً أمامها التواصل مع فلسطين المحتلة عام 48، وعاشت تجربة اللجوء داخل الوطن لا خارجه، عكست واقعها هذا في خطابها السياسي الأول.

لكن هذا لم يكن ليدلّ بحال، على إسقاط لملايين اللاجئين في الشتات في خطاب حماس أو تفكيرها السياسي، ذلك أن ثمة قضية جوهرية ترتبط بحق عودة هؤلاء اللاجئين، كانت هي الثابت الأساس والمركزي في خطاب حماس في مهدها الأول، وهي التمسك بالحق الشرعي والتاريخي في كامل فلسطين، بل واعتبارها أرض وقف إسلامي، كما جاء في ميثاق حماس: "تعتقد حركة المقاومة الإسلامية أن أرض فلسطين أرض وقف إسلامي على أجيال المسلمين إلى يوم القيامة، لا يصحّ التفريط بها أو بجزء منها أو التنازل عنها أو عن جزء منها، ولا تملك ذلك دولة عربية أو كل الدول العربية، ولا يملك ذلك ملك أو رئيس، أو كل الملوك والرؤساء، ولا تملك ذلك منظمة أو كل المنظمات سواء كانت فلسطينية أو عربية؛ لأن فلسطين أرض وقف إسلامي على الأجيال الإسلامية إلى يوم القيامة. هذا حكمها في الشريعة الإسلامية".

وأياً كان الرأي، في تأسيس التمسك بكامل فلسطين، على نظرية شرعية، تقضي بأنها أرض وقف إسلامي، فإن هذا التمسك، الذي عُبِّر عنه لاحقاً أحياناً، برفض الاعتراف بـ"إسرائيل"، دون قرنه بالضرورة بوقفية أرض فلسطين، ضامن لحق العودة؛ فتحرير كامل فلسطين، أو رفض شرعية وجود الكيان الصهيوني، أو اشتراط أي ترتيب مرحلي بعدم الاعتراف بهذا الكيان، يعني حتماً التمسك بعودة اللاجئين إلى وطنهم الذي هُجِّروا منه.

لا شك في أنه في مراحل لاحقة، صارت حماس أكثر تحديداً في التعبير عن حق العودة، وتأكيده، ولعلّ من المفارقات التاريخية أن القرار الأممي المتعلق بحق العودة، هو أول القرارات الدولية التي ضمنتها حماس في خطابها السياسي، وذلك بعد حادثة الإبعاد إلى مرج الزهور، حيث رفع مبعدو الحركة لافتات مكتوباً عليها رقم القرار 194، وطالب المتحدثون باسمهم بتطبيق القرار، واستثمروا هذه القضية في إحراج الأمم المتحدة، وبيان عجزها عن تنفيذ قراراتها إذا كانت تلبي شيئاً من حقوق الفلسطينيين، كذلك كان مبعدو مرج الزهور سبباً في صدور القرار 799 لعام 1992 عن مجلس الأمن، الذي أدان عملية الإبعاد وطالب دولة الاحتلال بأن تكفل عودة جميع المبعدين إلى الأرض المحتلة، ومن ثم ليسجل مبعدو حركة حماس ومن كان معهم من مبعدي الجهاد الإسلامي في مرج الزهور، بعد صمود في العراء، أول إفشال فلسطيني لعملية إبعاد جماعي، وليكون مخيمهم أول مخيم فلسطيني يفكك ويعود ساكنوه إلى بيوتهم التي أبعدوا منها.

وعلى أية حال؛ لا تحتمل هذه العجالة أن تعرض حضور حق العودة في خطاب حماس، ورصد تحولات موقعه بحسب تطورات موقع حماس محلياً وإقليمياً ودولياً، إلا أن قضية حق العودة، لم تكن محل اشتباه أو التباس أو غموض في خطاب حماس؛ فهي إما أنها قد عبّرت عنها في سياق التمسك بكامل فلسطين، وبالتالي رفض شرعية من قام باحتلال الأرض وتهجير أصحابها الأصليين، أو تأكيد حق العودة مباشرة، كما حصل لاحقاً، حينما أصبحت الحركة أكثر التصاقاً بالممارسة السياسية، وإدراكاً لطبيعة اللغة المتداولة في صياغة الخطاب السياسي.

وبخلاف حركة فتح، فإن حماس، ورغم دخولها السلطة الفلسطينية، واضطرارها إلى تقديم مواءمات سياسية، لتحقيق التوافق مع حركة فتح على برنامج الحد الأدنى الممكن، ولرفع الحصار عن حكومتها المتشكلة بعد فوزها في الانتخابات التشريعية في عام 2006، فإنها لم تنخرط في مشروع التسوية، ولم تتورط في مفاوضات مع الاحتلال بهذا الخصوص، الأمر الذي جعل جوهر موقفها من حق العودة وما يعبّر عنه من خطاب، نقياً، وليس محل إشكال.

بيد أن بعض هذه المواءمات التي اضطرت الحركة إلى تقديمها في عدة محطات، وخاصة من بعد فوزها في الانتخابات، وحرصها على خلق تفاهم مع فتح التي تشكل قطب الحركة الوطنية الآخر، لم تراع أحياناً آثار هذه المواءمات والمبادرات على قضية العودة، وهو ما كانت حماس تحاول تداركه بتقييد تلك المواءمات والتفاهمات، بنص يؤكد عدم الانتقاص من حقوق شعبنا.

ولأن المقام لا يحتمل عرض كل مبادرات حماس السياسية، أو ما كان بينها وبين فتح من تفاهمات على برامج سياسية مشتركة، فإنه يكفي للاستدلال على هذا الارتباك، بدعم حماس أخيراً، خطوة الرئيس محمود عباس في طلب منح فلسطين من الجمعية العامة للأمم المتحدة صفة دولة غير عضو في الأمم المتحدة على كامل الأراضي التي احتلت عام 67، من دون أن تقدم حماس رؤية كاملة متماسكة لا تنطوي على أي تناقضات بين محددات هذه الرؤية، أو مخاطر على أيٍّ من ثوابت الصراع مع العدو، حيث جاء في نص خطاب الرئيس محمود عباس في الجمعية العامة للأم المتحدة: "لن نقبل إلا باستقلال دولة فلسطين وعاصمتها القدس فوق جميع الأراضي التي احتلت عام 1967 لتعيش بأمن وسلام إلى جانب دولة إسرائيل، وحل قضية اللاجئين على أساس القرار 194، حسب منطوق المبادرة العربية للسلام".

ففضلاً عن المخاطر المترتبة على ما في الطلب من تكريس للاعتراف الفلسطيني بدولة "إسرائيل" بقرار أممي جديد، الأمر الذي قد يمسّ بحق الفلسطينيين في المطالبة بعودة اللاجئين إلى ما احتل عام 1948، على افتراض أنه لا يحق لهم حينها تحديد طبيعة السكان ونوعهم في دولة أخرى اعترفوا بها، فإن تنفيذ القرار 194 قيد بمنطوق المبادرة العربية، التي نصّت على "التوصل إلى حل عادل لمشكلة اللاجئين الفلسطينيين يتفق عليه وفقاً لقرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم 194". فلفظ (الحل العادل) غامض، ولا يحدد الحق بنحو قاطع ويقيني، والأسوأ من ذلك، إخضاع تنفيذ القرار للاتفاق مع "إسرائيل"، وهو ما يعني أن الحل المقصود هو عودة اللاجئين إلى ما احتل عام 1967، وتوطين وتعويض البقية.

وعلى هذا فإن تقييد دعم حماس لخطوة التوجه للجمعية العامة للأمم المتحدة لهذا الغرض، بما لا يمس بالثوابت، أو لا يخالف استراتيجية حماس، لا معنى له؛ لأن كل ما في الخطوة يناقض ثوابت حماس؛ فإقامة دولة فلسطينية وفق أي قرار أممي يقضي بالضرورة تأكيد شرعية "إسرائيل" وحقها في الوجود إلى جانب دولة فلسطين، وهذا ما أكده الرئيس عباس في خطابه، كذلك إن "حل مشكلة اللاجئين" في هذه الخطوة يكون بحسب منطوق المبادرة العربية التي تجعل "الحل" خاضعاً لنوع الاتفاق مع "إسرائيل".

ولعل ما أثير من جدل حول هذا الدعم، والغبش الذي يطفو على سطح خطاب حماس السياسي أحياناً، ما دفع الأخ خالد مشعل رئيس المكتب السياسي للحركة، في خطاب احتفالها بانطلاقتها الخامسة والعشرين في قطاع غزة، إلى بيان ثوابت حماس وسياستها بنحو محدَّد، بما في ذلك حق العودة، الذي أكده بقوله: "حق العودة، عودة كل اللاجئين، كل النازحين كل المبعدين، إلى أرض فلسطين، إلى المدن، إلى القرى، إلى الأحياء، في غزة والضفة والـ48، وكل شبر من أرضنا نحن أصحابه، ولد فيه آباؤنا وأجدادنا، عشنا فيه، ولنا فيه ذاكرة وتاريخ، فحق العودة مقدس لدينا، ولا تفريط بحق العودة... وأنا وإخواني حين جئنا بالأمس بدأنا نمارس حق العودة... بالله عليكم ما الذي مكّننا من العودة؟ أليست معركة غزة ذات الثمانية أيام؟ أليست دماء الجعبري ومحمد الهمص؟... حماس مبدأها قاطع، فلا توطين ولا وطن بديل، لا غنى عن فلسطين، لا بديل من فلسطين إلا فلسطين".

وهو بهذا يشدّد من جديد على فلسطين الكاملة، التي عبّر عنها بصيغ أخرى في الخطاب نفسه، كقوله: "فلسطين من نهرها إلى بحرها، من شمالها إلى جنوبها، أرضنا وحقنا، ووطننا لا تنازل ولا تفريط بأي شبر أو جزء منها"، ويؤكد حق العودة إلى كل فلسطين، وقداسة الحق، ورفض التفريط فيه، والطريق الذي يوصل إلى هذا الحق، أي طريق المقاومة، والرفض القاطع للتوطين.

لقد كانت حماس تحديداً، والحركة الوطنية عموماً، بحاجة إلى مثل هذا الخطاب الوطني، الذي يليق بلحظة انتصار حماس في الحرب الأخيرة، لكن المنتظر، ألا يكون خطاب مشعل جزيرة معزولة في بحر الممارسة السياسية لحماس، بل أرضية تتأسس عليها رؤية أكثر تماسكاً، وتراعي عدم التعارض مع أيٍّ من الثوابت الوطنية، وينبني في قابل الأيام على هذه الأرضية مشروع لإعادة دمج اللاجئين في الشتات من جديد في قيادة المشروع الوطني، بما يردّ لهم حقهم الذي سلبهم إياه مشروع السلطة الفلسطينية، وتراجع دور منظمة التحرير التي لم تعد قائمة من الناحية العملية.

المصدر: مجلة العودة، العدد الخامس والستون