حكاية لاجئ من عكا الى دمشق
بقلم: منى طالب
«ما زلت احلم بالعودة إلى كوم البرتقال». بهذه العبارة يستعيد خليل الشيخ طالب مشهد دكان الخضروات الذي كان يملكه والده كامل الشيخ طالب في مدينة عكا بجوار البحر، حيث كانوا يبيعون أكثر من عشر برتقالات بقرش واحد على اختلاف صنوف البرتقال كاليافاوي وأبو صرة ودم الزغلول...الخ.
في السابعة عشرة يصعد خليل الباخرة بعدما نظر النظرة الأخيرة على عكا حيث ولد في حارة القلعة التي يفصلها سور المدينة عن البحر، في بيت عربي من ثلاث غرف وسدة (سقف إضافي يصعد إليها بسلم) علاوة على مطبخ في الساحة السماوية.
بلدة قديمة وراء السور تصطخب بهدير البحر الذي يلاقي نداءات التجار وأغاني الصيادين وأدعية العمال الذين قدموا من حوران وقرى فلسطينية أخرى للعمل في ميناء عكا أو في صيد السمك.
ويكتمل المكان بأولئك الفلاحين الآتين من قرى عكا (البروة، الزيب، البسطة، ترشيحا، كفر ياسيف، كويكات)، الذين يأتون لبيع بضائعهم من أهل المدينة التي اكتفت بنفسها لفرط جمالها وعراقتها، فأبت أن تزوج بناتها لهؤلاء الغرباء حتى لا يحلفوا «بحياة غربتي» وهي عبارة تقال كناية عن المعاناة التي تلحق بالفتاة العكاوية إذا ارتبطت بغريب!
مدينة المحبة والفرح
ينحاز خليل الشيخ (أبو ماجد) إلى الفرح في مدينته من خلال ذاكرة انتقائية تسطو عليها طقوس الأعياد والمواسم المتعددة التي كان يقيمها أهل عكا بالرقص والغناء ولعب السيف والترس وتوزيع الحلوى التي يشتهرون بصناعتها منذ مئات السنين كحلاوة النص والمهلبية بالرز ومن دون رز والكنافة والمدلوقة.
«كان المسلمون والمسيحيون في عكا تجمعهم المحبة والحياة المشتركة». هكذا يصف خليل احتفاء العكاويين جميعهم بالأعياد الدينية مسيحية أكانت أو إسلامية ، مستذكراً أحد الفصح الذي كان يحتفل به المسلمون كما يحتفلون بعيد الأضحى، فيلونون البيض ويوزعون الحلوى، أو يخرجون مع المسيحيين حاملين المشاعل للابتهاج والفرح.
يتذكر الشيخ خليل الشوباش الذي كان شائعاً في مدينة الجزار وفي بعض مدن الساحل السوري، وهو فن غنائي يشبه الزجل يؤديه العكاويون في الأعراس والمواسم حيث يلقي شخص مجموعة من الأبيات الشعرية التي تنتهي بلازمة واحدة وفي موضوع محدد ليرد عليه شخص آخر بنوع من المبارزة والتنافس.
كان العريس ووالده وإخوته يرتدون بزة كحلية اللون، بينما ترتدي العروس فستاناً أبيض. وتقام الأعراس في داخل البيوت، حيث يوزع الملبس وتقدم البوظة والكنافة في صباحية العرس، وكانت ملابس العريس توضع على صدر كبير وتزين بالورد استعداداً لحمام العريس الذي يرافقه الرقص والغناء. ويشتهر أهل عكا بطبخ الأوزي (القوزي) والمحاشي، فيما لباسهم مؤلف من القميص والسروال إضافة إلى الطربوش، أما النساء فيرتدين ملاية سوداء. وعلى كتف السجن يفتح حمام الباشا أبوابه فيأتي العكاويون ليمضوا فيه نهاراً (بخمسة قروش) ويحضرون طعامهم من ليمون معصور وفول وحمص.
أما العزاء فيقام في المقبرة الإسلامية التي تقع خارج البلدة القديمة على طريق حيفا، ويستمر ثلاثة أيام حيث توزع القهوة العربية المرة ويوزع الأوزي (رز ولحم) على المعزين.
عكا تغازل البحر
في حديث خليل الشيخ ذاكرة خصبة، فهو لا يزال يذكر المقاهي الكثيرة التي تنتشر على طول ساحل عكا وفي ساحات البلدة، كأن المدينة لم تسأم الجلوس إلى البحر، بل ربما يشكل البحر سر انفراد عكا وأهلها بحدة مزاجهم وجلدهم وحبهم للمغامرة والحياة. ويؤكد هذه العلاقة المثل الشعبي الذي يقول: «لو عكا بتخاف من هدير البحر ما جاورته!».
منذ الصباح الباكر يواعد العكاويون البحر كعشيقة، يخرجون إلى المقاهي ويتناولون قهوتهم الصباحية ويدخنون النارجيلة بالتنباك العجمي، ويطالعون جريدة «الدفاع» وهم ينظرون الأفق بعين ملؤها التفاؤل والأمل وهم ينصتون لصوت القرآن الكريم من راديو قديم معلق بمقهى ابن شتات ومقهى مرق ومقهى توفيق أبو رقبة.
صخب ورجال
كان البحر يهتاج شتاء فيضرب سور المدينة بأمواجه العالية؛ فيمنع الناس من دخول الميناء حتى يصفو ويستكين. حينذاك تزدحم المدينة بأسواقها كالسوق الأبيض الذي تميز باتساعه وتعدد السلع التي تباع به، خلافاً لسوق العتم الذي يقع على كتف مسجد الجزار في البلدة القديمة وكان يشتهر بمستودعاته التي تخزن بها البضائع خاصة الزيت.
يمرّ الشيخ بمدينته وتفاصيلها ورجالها وهي التي ابتعدت عنه وتباعدت واختلفت جراء التهويد فيشير إلى صورة من العام 1948 لساحة اللومان التي تحتضن مقاهي الجانة وابن شتات وأبو رقبة يجاورها بنك باركليز البريطاني وبائعو الفول أشهرهم أبو عبد الله قبلان علاوة على الحلاقين وباعة السجاير ومحلات الجزارين.
ويغادرها منتقلاً إلى ساحة الجرينة حيث يجتمع الصيادون في مقهى الجرينة، ثم إلى مقهى عوض حيث يقدم المشروبات الروحية، بينما تحتضن ساحة الكراكون بعض المقاهي غير البحرية وفي آخرها يمتد شارع تنتشر على جنباته محلات السمك، وتضم ساحة الكنيسة (عبود) وأحياء سكنية إلى جوار المدرسة الوطنية والمحلات التجارية.
رجالّ يغذّون السير بحثاً عن الرزق ، فيذهبون مثلاً إلى صالات السينما مثل سينما الأهلي وسينما البرج الواقعتين إلى جانب المحكمة وسينما ثالثة قديمة قرب مسجد الشيخ غانم، وهدفهم مشاهدة فيلم عربي من بطولة حسين مختار.
أما النساء فيذهبن إلى مقام النبي صالح للتبارك فيه، وعلى الطرف الآخر تقع محطة القطار الذي يربط حيفا بعكا ثم بنهاريا فالشام بحافلات إدفش (كانت تلقب بذلك لكثرة خرابها) والتي كثيراً ما يجد المرء غريباً واقفاً في ساحة الجرينة قبالة برج الساعة سائلاً عن خان العمدان ليستأجر غرفة فيه، فيما يذهب التلاميذ إلى مدرسة الفرقة بجوار ساحة عبود أو المدرسة الوطنية لتلقي دروسهم تمهيداً لمتابعتها في القدس، بينما تذهب التلميذات إلى مدرستهن قرب سجن عكا.
واجهة أحد المحال في عكا.ضمت عكا، في الزمان الغابر، ست كنائس هي: كنيسة ودير سانت جورج وهي كنيسة يونانية أرثوذكسية، وكنيسة القديس يوحنا التي كانت مهجورة قبل نكبة فلسطين، وكنيسة القديس أندراوس وهي كنيسة كاثوليكية بنيت أيام ظاهر العمر وتقع على مكان مرتفع في حي الفاخورة غربي المدينة، والكنيسة المارونية، وكنيسة ودير الفرنسيسكان (اللاتين) الواقعين في وسط السوق الشعبي، إضافة إلى الكنيسة البروتستانتية. كذلك تزدان عكا بالمساجد وأشهرها مسجد أحمد باشا الجزار الذي كان يضم مدرسة دينية ومكتبة ومحكمة شرعية يرأسها القاضي أسعد قدورة، ومسجد الزيتونة وجامع ظاهر عمر (المعلق) وجامع الرمل وهو أقدم مساجد عكا، ومسجد المجادلة وجامع اللبابيدي، إضافة إلى مسجد الزاوية الشاذلية.
«اجتمعت الأديان جميعها بسلام ما عدا اليهود الذين لم يستطيعوا العيش في المدينة»، ينوّه خليل باحتضان عكا المسيحيين والمسلمين والبهائيين الذين قطنوا حدائق البهجة وأقاموا فيها معبدهم، بينما لم يطق اليهود المقام في المدينة ما عدا يهودي واحد يدعى زاكي كان يعمل نهاراً بالتمديدات الصحية ويغادرها في المساء.
طاعون وانكليز
يتذكر خليل الشيخ أن أخاه طالب أصيب بالطاعون في أثناء عمله في الفاينري (شركة البترول)، وقد شخّص حالته الدكتور الأرمني ارديكيان وهو أحد ثلاثة أطباء كانوا في مدينة عكا (أما الآخران فهما من آل بيضون كان أحدهما طبيب أسنان). وقد اتصل أرديكيان بمركز الشرطة لفرض الحجر الصحي على المدينة كلها فأغلقت بوابتها ولم يدخل إليها أو يخرج منها أحد، ثم انتقلت العدوى إلى أبو ماجد في أثناء زيارته أخيه في مشفى الكارنتينا بحيفا وهو لم يبلغ الثالثة عشرة. وتذكره سيرة الطاعون بالاحتلال الانكليزي الذي أحكم قبضته في ذلك الوقت على المدينة متخذاً له مركزين أمنيين فيها أحدهما في القلعة بالبلدة القديمة، والآخر غربي البلدة بجوار البحر. وكان الأطفال يقلدون العسكر فيضعون أغطية الكازوز على كتفهم تشبهاً بالنجوم على أكتاف الضباط وطاسة من الألمنيوم تشبهاً بالخوذة العسكرية.
يصف أبو ماجد قائد الشرطة في مدينة عكا مستر بلاك (نقيب) الذي كان ضخم الجثة وشديداً وذا هيبة، ويضع المسدس على ساقه، وقد تعارك يوماً مع والده لأنه أرعب أخيه.
كانت خطب المحامي أحمد الشقيري تلهب أفئدة الناس ومنهم أبو ماجد، حيث كانت الجموع تحتشد في ساحة اللومان لسماع خطبة الشقيري وهو يهاجم المحتل الانكليزي ويحذر من العصابات الصهيونية، فيعتقل في إثرها وما إن يخرج من سجنه حتى يعود إلى نضاله.
في العام 1948 جرى تخويف أهل عكا بقصف مدفعي من جبل الكرمل صوب البحر، ثم رُوّع الأهالي بأخبار المجازر التي ارتكبتها العصابات اليهودية في إحدى قرى صفد، فخرج الناس على ظهر إحدى البواخر إلى صيدا.
« كانت الناس تبكي وتولول وهي تخرج من المدينة على أمل العودة إليها». وبعد أن توقف اللاجئون في صيدا توجهوا بالسيارات إلى منطقة الكارنتينا في بيروت ثم إلى الشام بالقطار حتى وصلوا إلى قرية ازرع في حوران فأسكنوا في اصطبلات الخيل التي بنيت إبان الاحتلال الفرنسي. وبعد نحو شهر ارتحلوا إلى قصر الأمير عمر الجزائري في دمر حيث عمل أبو ماجد في مقهى قصر شمعايا قرب الجسر. ولم يلبث كثيرون أن غادروا إلى دمشق وبدأوا العمل في مهن مختلفة بحثاُ عن لقمة العيش. وقد عاملهم الشوام معاملة كريمة». يستدرك خليل بقوله: جرى منحنا بيوتاً في حارة اليهود (كانت مملوكة لعائلات يهودية هاجرت إلى فلسطين المحتلة إثر نكبة فلسطين) وكان ذلك في العام 1952.
عمل أبو ماجد في مهن عدة حتى التحق بالعمل في مؤسسة الغزل والنسيج في سنة 1957 وظل فيها حتى تقاعد في سنة 1977، وانتقل من حارة اليهود ليبتاع بيتاً في مخيم اليرموك بألف ليرة سورية، وكان من أوائل القاطنين فيه.
* كاتبة فلسطينية مقيمة في دمشق
المصدر: السفير