حماس التي خرجت من سوريا ولم تدخل مصر
بقلم: ساري عرابي
* قراءة في المشهد:
في الشهرين الثاني والثالث من العام الماضي كتبت
مقالتين، الأولى؛ حول موقف حماس من الثورة السورية، دعوت فيها إلى التعامل مع حماس
كحركة مقاومة في سياق ثورة فلسطينية مستمرة، وتقدير عملها في بيئة شديدة التعقيد ويغلب
عليها العداء لمشروع الحركة التحرري، والثانية؛ رأيت فيها أن القوى الإقليمية المناوئة
للتغير في المشهد الإقليمي، وبعضها دول عربية مركزية، ومن خلفها دول النظام الدولي،
قد تمكنت من احتواء حركة ما عرف بـ"الثورات العربية"، وهو الاحتواء الذي
يبدو ناجحًا حتى اللحظة.
كان المشهد متحركًا، ولا يحتمل المراهنة عليه والمغامرة
بأية مكاسب قائمة، لأجل أماني لا يوجد ما يسندها من حقائق، وعلى العكس، كانت المعطيات
الموضوعية، لا تزال في غير صالح حركة المقاومة.
فالتدخل الخليجي في سوريا، وإن كان في جانب منه
يصفي حسابًا مع بشار الأسد ويخوض معركة مع إيران، فإنه لن يغامر بتغيير المنظومة الإقليمية،
وصعود الفوضى في عقدة جغرافية إستراتيجية من شأنها أن تفتح الآفاق على تحولات واسعة
في المشرق العربي (فوضى على حدود السعودية وتركيا والعراق والأردن ولبنان والكيان الصهيوني)،
والأمر نفسه يمكن قوله بالنسبة لتركيا، التي مهما بلغت قيادتها من صدق التعاطف مع جراح
الشعب السوري، فإنها لم تكن لتذهب خارج موقعها في الحفاظ على المصالح الغربية.
الأنظمة العربية بطبيعتها، خاصة الخليجية منها،
تتعامل بعداء بالغ، وتوجس كبير، مع أي حركة تغيير شعبية عفوية وتلقائية حتى لو كانت
تستهدف أنظمة عربية أخرى تخاصمها، لأسباب مفهومة متعلقة ببنى هذه الأنظمة، لكن الخطورة
تبدو أكبر لدى هذه الأنظمة، حينما تندفع حركة التغيير الشعبية بتلقائيتها صوب تغيير
المنظومة الإقليمية، وهو ما من شأنه أن ينسف بهذه المنظومة، أي بوجود هذه الأنظمة،
أو أن يكون التغيير خارج خريطة مصالحها.
وهذا العداء والتوجس تشاركها فيه أصلاً قوى النظام
الدولي، ولعل هذه القراءة يمكنها أن تفسر جانبًا من أسباب التدخل لإحباط الثورة السورية،
فقوى النظام الدولي لا يمكنها أن تسمح بأي تغيير في المنظومة الإقليمية إلا بفعلها
وعلى أساس رؤيتها ووفق مصالحها.
وفي مصر أجهضت النواة الثورية، حينما اقتصرت نتائج
25 يناير على إسقاط مبارك، وإبقاء الدولة كما هي بنفس البنى، وكان هذا الإجهاض بمشاركة
صناع الثورة أنفسهم، وكان واضحًا أن الإسلاميين القادمين إلى الحكم سوف يراعون اشتراطات
الوصول إلى حكم دولة مركزية في المنظومة الإقليمية، بتسويات مع البنى القائمة، ومراعاة
بعض التسويات مع القوى الإقليمية والدولية.
فهذه الدولة أي مصر، بدأت تلتحق فعليًا بالحقبة
الخليجية من بعد هزيمة العام 1967، ورضوخ عبد الناصر أخيرًا وبشكل ذليل للقوى الرجعية
كما كان يسميها، بعد السقوط المدوي لمشروعه، واحتياجه للمال الخليجي، لتكتمل أخيرًا
تبعية مصر لأمريكا من بعد حرب العام 1973، بحيث تشكلت تمامًا عقيدة الدولة المصرية،
وعلى نحو راسخ، صاغت في إثرها محددات الأمن القومي، الذي لا يرى مصر قادرة على الاستمرار،
إلا بضمان بقائها داخل المنظومة الإقليمية، بنفي أي فكر متجاوز لمفهوم الدولة الحديثة
القطرية، وخاصة إذا كان هذا الفكر إسلاميًا، باعتباره الأكثر إثارة للمخاوف والعداء
في الغرب، والقيام بالدور الوظيفي في خريطة المصالح الأمريكية وعلى حدود الكيان الصهيوني،
وإحباط أي تغيير في المشهد الإقليمي العربي.
واستطرادًا، مع المشهد الإقليمي كله، يمكن قراءة
خطة أعداء المشروع التحرري في المنطقة في احتواء حركات التغيير الشعبية التلقائية،
من تدخل النيتو في ليبيا، مهما قيل في تسويغه، مرورًا بإحباط مشروع الثورة اليمنية،
إضافة إلى تطويق الحركات الاحتجاجية في المغرب والأردن، بينما الاحتمالات في تونس تبقى
مفتوحة، مع مخاطر الاستمرار من داخل الأنموذج أسفل السقف الموروث من زمن الاستبداد
والمفروض استعماريًا، لكن تبقى الأهمية الاستثنائية لكل من سوريا ومصر، لمركزيتهما
في المشرق العربي، ومركزيتهما من بين دول الطوق.
* إشكالات القراءة الإخوانية:
كان الإشكال دائمًا بالنسبة لجماعات الإخوان المسلمين،
اعتماد حسن الظن بالجماعة، والمعرفة بصدق ونبل غاياتها ومقاصدها النهائية، أداة تحليل
وحيدة لقراءة خيارات الجماعة السياسية والفكرية، فالغاية النهائية إقامة المشروع الإسلامي
وأستاذية العالم، ونظرًا للطبيعة التربوية المميزة داخل الجماعة، والظروف التي عبرتها
تاريخيًا، وانشغالها بالجانب العملي، وترفعها عما يغرق فيه الإسلاميون الآخرون من خلافات
وتجاذبات، فإن الشعور بالطهورية يغلب على أبناء الجماعة، وهو ما يحول كثيرًا دون قراءة
موضوعية للمسار والخيارات، فالنوايا الحسنة لا تضمن بالضرورة صحة المسار.
وكانت حماس، من ضمن جماعات الإخوان المسلمين، التي
سلمت للإخوان المسلمين في مصر بمسارهم، وقبلت منهم خطة عملهم، القائمة على إرجاء المشاريع
الكبرى إلى ما بعد التمكين وبناء مصر، وهو ما يحتاج، بحسب رؤية الإخوان، إلى التدرج
والصبر والحكمة، وعدم المغامرة باتخاذ مواقف كبرى تصدم القوى الدولية والإقليمية، أو
تصدم سدنة عقيدة الأمن القومي المصري من بنى الدولة القوية المستمرة.
وحماس بطبيعة الحال، كانت تنطلق من حسن الظن وتعول
على المستقبل، وقد أخذها الإيمان بحقيقة التغيير الحاصل في المنطقة واستحالة العودة
إلى الوراء.
وهذا المنهج في قراءة الجماعة، لم يكن ليتيح أي
مناقشة جادة للمسار، فضلاً عن المراجعة، وإنما هو يدفع دائمًا نحو الدفاع المستند إلى
حسن الظن والمعرفة بصدق الجماعة، وهو ما لا يمكن إلزام الآخرين به ممن يساهمون في النقاش
العربي العام أو ينخرطون في هذا التدافع من غير الإخوان المسلمين.
بيد أن الأهم كان إدراك أن نبل المقاصد لم يكن ليمنع
من أمرين: إما الذوبان في الأنموذج القائم والاستحالة إلى طبيعة مختلفة بتدرج في المبررات
التي تقوم على إحسان الظن، أو الخروج من المشهد حين العجز عن الاستمرار في قبول اشتراطات
الأنموذج القائم بشقيه (بنية الدولة، والمنظومتين الإقليمية والدولية)، وهذا الذي حصل
مع الإخوان، حين انقلب عليهم ملاك أوراق القوة في البنية التي طرأ عليها الإخوان ولم
يكونوا يومًا منها ولا يملكون فيها شيئًا، وهذا في جانب منه قد يكشف عن صدق الإخوان
في مقاصدهم بيد أنه يكشف عن فشل الخطة، وفي جانب آخر يحيل إلى ضرورة المراجعة، ويفتح
فرصًا وآفاقا أخرى لمواجهة هذه البنى القائمة.
كانت المشكلة التي حالت دون قراءة دقيقة للمشهد
الإقليمي والحضور الدولي فيه، لا تتعلق بجماعة الإخوان المسلمين وحماس وحسب، وهي أيضًا
في حالة الإخوان وحماس لم تقتصر المشكلة على نزعة حسن الظن والاستشعار الملازم للأفضلية
والطهورية التي كبحت مراجعة المسار والتدقيق فيه، وإنما كان ثمة نشوة عامة طالت كل
الأحرار في المنطقة العربية، بدأت بالانحسار أولاً عن القوميين واليساريين حينما وصلت
الثورة سورية، ولأن "الثورات العربية" صعدت بالإسلاميين، فأعادوا تقييمها
بأثر رجعي، وعدوها مؤامرة أمريكية، بينما بدأت النشوة بالانحسار عن الإسلاميين بعد
الانقلاب الأخير على الرئيس محمد مرسي، وجلاء أدوار الأطراف المحلية والإقليمية والدولية
في هذا الانقلاب.
وهذه النشوة، عززت بعض التصورات الرومانسية عن الشعوب
والمجتمعات العربية، حيث أغفلت عقودًا ممتدة من الاستبداد التي رزحت أسفلها هذه الشعوب،
وما يمكن لتلك العقود أن تراكمه من أمراض وتشوهات في وعيها وسلوكها.
فبدأت تلك التصورات في قراءة تلك الشعوب من لحظة
"الثورات" وكأن التاريخ بدأ من هنا، وكأن الشعوب هي تلك التي خرجت ثائرة
فقط، أو كأن التأثير في مستقبل البلاد العربية سيقتصر على "الثوار" والذين
هم أيضًا ليسوا نسيجًا واحدًا في الأفكار والأخلاق، هذا بالرغم من أن نصف المصوتين
المصريين، مثلاً، صوتوا لممثل نظام مبارك، أحمد شفيق. فبسبب هذه النشوة ترسخت المقولة
الوثوقية بأن "الشعب لن يسمح".
ولأن المنطقة العربية كلها، بأنظمتها القمعية العميلة،
أو قواها التحررية، آمنت على المستوى الذهني بأن أوراق القوة أكثرها بيد أمريكا، تولدت
قراءة أخرى ترى بأن أمريكا بدأت الانسحاب من المنطقة، وهذه القراءة لدى الإسلاميين
لم يفسروا بها تفجر "الثورات" التي بقيت في وعيهم طاهرة نقية خارج التدبير
الأمريكي، وإنما فسروا بها فوزهم في الانتخابات في كل من تونس ومصر، مستدلين على عمليات
الإفشال القمعي والدموي التي حصلت في تونس والجزائر في القرن الماضي بغطاء غربي فرنسي
وأمريكي.
ولذلك ترسخت مقولة أخرى بأن "الزمن لن يرجع
للوراء"، وأنه يمكن الاستمرار في ظل الضعف الأمريكي مع بعض التسويات بما يحول
دون استفزاز قوة حضور أمريكا في المنطقة من جديد.
نشوة حالت دون قراءة شاملة للمشهد في تركيبته المعقدة،
وأغفلت قوة الخصوم، سواء أولئك الذين ينطلقون في خصومتهم من الحسد السياسي أو الحقد
الأيديولوجي، أو العداء الجذري لفكرة التغيير في البلد أو في المنطقة، وهي النشوة التي
تمظهرت في اندفاع مغرور أو غير متروي، بعدما انهالت التطمينات على الإخوان من قوى مختلفة،
بأن تجربتكم لن تفشل، وأن المنطقة دخلت في تحول ديمقراطي حقيقي، والزمن لن يرجع للوراء
فعلاً.
هذا لا ينفي أن ثمة تغيرا جديا انفتح على إمكانات
تدافع واسعة تنتهي بهذه الحالة إلى ثورات حقيقية تعيد بناء مشرقنا العربي من جديد،
فالثورات الحقيقية هي زمن طويل ممتد من التدافع القاسي، فكان ثمة قصور في إدراك أن
التدافع لم يكن قد حسم قبل الانقلاب على مرسي لصالح الإسلاميين أو لصالح مشروع التغيير،
وهو الآن بعد الانقلاب لم يحسم لصالح خصوم الإسلاميين أو أعداء التغيير.
وهو الأمر الذي كان يقضي حينه، أي قبل الانقلاب،
وحتى قبل الترشح للرئاسة، مراعاة المشهد في تركيبته المعقدة مع أخذ قوة كل الأطراف
بعين الاعتبار، وعيش اللحظة الحقيقية بدلاً من عيش لحظة متوهمة (لحظة الانتصار المنجز
الذي لم ينجز!)، والذي يقضي الآن بمراجعة التجربة، وتعزيز الإرادة بالاستمرار في المواجهة
والثبات على الحق، واستحضار قوله تعالى وهو يحذر من الاطمئنان المستعجل حين الخير،
أو الجزع حين الشر: "فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ
فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ".
* فلسطين وحماس في المشهد:
في سياق هذا المشهد تأتي فلسطين وحماس، فلسطين من
حيث كونها قضية العرب الجامعة، كما يفترض، والمؤشر على صدقية ومستوى التغير ونجاح مشروع
التحرر العربي، ومن حيث أثر الحضور الاستعماري فيها (الكيان الصهيوني) في إفشال أي
مشروع تحرر عربي حقيقي.
أما حماس، حركة المقاومة الأهم والأكبر في فلسطين،
فقد ارتبطت بالمشهد الإقليمي والتحولات الجارية من جوانب خمس:
أولاً: فلسطين التي سبق الحديث عنها بكل ما اتصل
بها، وثانيًا: أنها تحكم قطاع غزة الذي عانى من قهر الالتصاق الجغرافي بمصر، وثالثًا:
أنها حركة إخوانية ترتبط بجماعات الإخوان المسلمين في العالم كله وتأثرت مواقفها وقراراتها
بصعود هذه الحركات خاصة في مصر، ورابعًا: أنها ارتبطت طوال عقدين بصعود متدرج بعلاقة
تحالف وثيقة مع محور (إيران، سوريا، حزب الله)، خامسًا: أن الحركة تعرضت لحصار خانق،
وعداء محكم، سافر أو مضمر، من دول ما عرف بـ (محور الاعتدال العربي)، والذي يضم مصر
والأردن وأكثر دول الخليج ومعهم السلطة الفلسطينية وحركة فتح.
هذا الارتباط المتشابك بالإقليم، وشديد التعقيد،
لا يجعل حماس أبدًا بمنأى عن آثار تغيرات بهذا الحجم في الإقليم، فقد استبشرت بسقوط
مبارك رئيس النظام الذي تولى المهمة المركزية من بين دول وقوى محور الاعتدال في حصار
حماس والدفع نحو إنجاز مشروع التسوية التصفوي للقضية الفلسطينية، ثم أصابتها الحيرة
والارتباك بعد وصول الموجة إلى سورية، ثم حسمت أمرها بالقطيعة مع تحالفها السابق، والانحياز
لما ظنته الزمن القادم، أي زمن الإخوان والإسلاميين، وظهر وكأن الحركة دخلت حلفًا جديدًا،
وعززت علاقتها بتركيا وقطر، وانخرطت تبشر بالديمقراطية والربيع العربي.
والذي حصل أن حماس خرجت من سويا، فلم تدخل مصر أصلاً،
بينما لا يمكن التعويل على تركيا التي ليست أكثر من محطة عابرة، فيكفي أن تكون عضوًا
في حلف النيتو، لنعلم حجم المفارقة حينما تحتضن حركة مقاومة تسعى لتحرير فلسطين!
ويكفي أن تركيا لم تتغير إلى الدرجة التي يصبح فيها
تحرير فلسطين من بنود عقيدتها القومية! بينما قطر، وبمعزل عن موقعها في الحضور الأمريكي
المدجج في الخليج، وبصرف النظر عن دوافع سياستها التي كانت تبدو جيدة بالمقارنة مع
بقية دول الخليج، فإنها بحجمها الطبيعي والبشري وجغرافيتها لا تقوى أبدًا على احتضان
حركة مقاومة تخوض صراعًا بهذا الحجم.
قد يبدو هذا التوصيف وكأن حماس قد تورطت في سوء
التقدير حتى باتت اليوم في أسوأ حالاتها، بينما الأمر أكبر من حماس بكثير، فهي لم تنحاز
عن النظام السوري وتقطع معه، فقط؛ انطلاقًا من موقف أخلاقي مبدئي، على أهمية هذا الدافع،
أو بسبب التعويل على الزمن الإخواني القادم، أو بضغط من قواعدها التي استنكرت تمامًا
بقاء حماس في سوريا أو امتناعها عن اتخاذ موقف واضح، أو بإغواء تركي وقطري يحذر من
قرب سقوط النظام السوري، أو بتأثر من حملة الضغط والهجوم التي شنتها أوساط عربية وسورية
مختلفة معادية للنظام السوري على حركة حماس، لم تكن قطيعة حماس مع النظام السوري لتلك
الأسباب وحسب، ولكن أيضًا لأن النظام السوري وحلفاءه أرادوا استخدام حماس في معركة
بشار الأسد الداخلية وهو ما لم تقبله حماس، فكانت خياراتها بالتأكيد صعبة وعسيرة.
* من مظاهر الخلل:
أكدت الأحداث، أن المحور الداعم للمقاومة، لدية
أجنداته الخاصة التي يظهر موقع فلسطين فيها أداة للاستخدام والتوظيف، أكثر مما هو موقع
القضية المبدئية الثابتة، ولذلك لم يكتف هذا المحور بقطع سبل الدعم عن حماس، والتي
هي بدورها أيضًا قطعت معه حتى وقت قريب، وإنما شن عليها حملة تخوين مذهلة، وكأن المقاوم
هو فقط الذي يتفق مع هذه المحور في كل معاركه، بحيث لا يكفي الالتقاء على أرضية فلسطين!
بينما بقيت قضية فلسطين مؤجلة في حسابات الإخوان،
إلى ما بعد التمكين الذي لا يعلم أحد متى يأتي، ولم يستطع مرسي في الحكم أن يقدم إلا
بعض المظاهر البروتوكولية لقيادات حماس، والتسهيلات التي انتزعها بعناء من سدنة الأمن
القومي الذين احتفظوا بعدائهم للحركة وبممارسات الحصار والعداء أثناء حكم مرسي وبعده.
وقد ظهر توظيف فلسطين أيضًا في الحالة المصرية،
حينما أُقحمت حماس وأهل غزة خصوصًا والفلسطينيون عمومًا، من طرف الدعاية المصرية المناوئة
للإخوان زورًا وبهتانًا في الأحداث، على نحو كشف وبشكل مذهل عن بنية واسعة ومهيئة لاستقبال
وإعادة بث الكراهية ضد الفلسطينيين، واستدعاء مقولات مصرية رائجة وخرافية عن الثمن
الذي دفعته مصر بسبب الفلسطينيين ناكري الجميل!
بينما وكما كان دائمًا، بقيت فلسطين خارج العالم
الخاص ببقية الدول العربية الأخرى، خاصة دول ما عرف بمحور الاعتدال، إلا بالقدر الذي
تساهم فيه بدفع مشروع التسوية، أو الحرب الاستخباراتية السرية الكاسحة على حماس، هذا
وبالرغم من أن حماس حاولت تحييد هذه الدول فضلاً عن كسبها، على حساب تحالفها مع إيران
دون جدوى، لتخسر إيران ولا تكسب الآخرين!
المشكلة إذن ليست في حماس وحدها، لكن من الواضح،
وإضافة إلى الخطأ في قراءة تغيرات الإقليم، واستعجال تغيير المواقع، كان واضحًا أن
ثمة خللاً في المفاهيم والتصورات، لم تفلح حماس في تغييرها، وإن تماهت معها أحيانًا،
ويمكن أن نساهم بمناقشة بعض منها:
أولاً: حماس، وإن كانت حركة إسلامية، فإنها حركة
تحرر وطني، من ضروراته حشد كل قوى الأمة خلفها، بكل قواها وتياراتها الفكرية والسياسية
بلا استثناء، فقضيتها لا تتعلق بذاتها، ولا برؤيتها الإسلامية وحسب، ولا بارتباطاتها
الإخوانية، وإنما بفلسطين، وهو ما يوجب على الحركة التواصل الحثيث وبناء العلاقات مع
كل مكونات الأمة، بما في ذلك كل مكونات المشهد المصري، وعلى النحو الذي يجنبها التوظيف
في أي استقطاب داخلي، بيد أنها بالتأكيد لا حيلة لها مع من يناصبها العداء ابتداء ويعرض
عن يدها الممدودة.
ثانيًا: خطيئة تأجيل فلسطين، والإمعان في طمأنة
الكيان الصهيوني والغرب، وتحويل غاية التغيير العربي إلى البناء الداخلي، وهذا راجع
بالأساس إلى خطأ المسار من البداية، وهو أيضًا ما ساهمت حماس خطأ في دعمه وتعزيزه،
انطلاقا من حسن ظن بالإخوان، واعتقادًا منها أن هذا المسار سيفضي إلى التمكين الذين
ينتهي بتحرير فلسطين! وهو ما لم يتم، وحتى لو مضت خطة التمكين فإن مخاطر الذوبان في
النموذج القائم تبقى قوية وقائمة.
وللأسف انساقت الجماعة، أحيانًا، خلف الدعوات التي
تجعل العداء لإيران مقدمًا على العداء لـ"إسرائيل"، بالرغم من أن مركز هذه
الدعوات معادٍ للإخوان، ومغيب تمامًا للقضية الفلسطينية، بل ومركز هذه الدعوات يرتبط
بعلاقات أوثق بإيران من العلاقة بالإخوان فضلاً عن العلاقة بحماس حيث يغلب العداء والاستهداف،
وهو ما ثبت بالتآمر الخليجي لإسقاط الإخوان في مصر، وهذا من المفارقات العجيبة في سياسات
الإقليم الغامضة، وهذا لا يعني الغفلة عن طبيعة المشروع الإيراني، الذي لا يندرج في
سياق رؤية أوسع للأمة، بل هو مشروع يتأسس على رؤية خاصة منفصلة عن عموم الأمة، ويتسلح
بعصبيات طائفية وقومية مغلقة، ما يحول دون التعويل التام عليه، أو الثقة العمياء به.
وبالنسبة لحماس، فإن القوى التي تكون أقرب إلى فلسطين،
ليس في المآل وحسب، بل في الراهن، هي الأولى بالاقتراب وبناء التحالف، على ضوء الإدراك
والوعي بكل نقاط الالتقاء والافتراق، فالتحالف مبصر، ويدرك مستوى التعويل، وحدود الافتراق.
ثالثًا: لم تواجه الخطابات الوطنية الضيقة بخطاب
ثوري جديد يناهض هذه الوطنيات المشوهة، والتي تظهر بأبشع ما يكون في مصر، خاصة بتجلياتها
المعادية للفلسطينيين، وأخيرًا للسوريين.
وامتنعت الحركة الإسلامية، مراعاة لهذه النزعة،
عن تقديم خطاب جديد يعيد صياغة موقع فلسطين بما يمنحه المكانة المتقدمة في المشروع
العربي التحرري بشكل واضح وبلا مواربة، ومسلحًا بما يهدم التصورات الخرافية التي راجت
لدى العرب عن القضية الفلسطينية.
وهذا لا ينفي مركزية حضور فلسطين في وعي الإخوان
المسلمين وبرامجهم التربوية والثقافية، لكن الحديث عن الخطاب في مستواه العام.
رابعًا: خطورة تحميل حركة تحرر وطني فوق طاقتها،
وبما يتجاوز وظيفتها، في اتخاذ مواقف من أحداث تدور في الإقليم، مهما كان الحق واضحًا
أو ملتبسًا فيها، وقد ساهم في دفع حماس نحو هذه المواقف الجميع تقريبًا، من عناصرها،
وإخوانها الإسلاميين، وحلفائها السابقين، وحلفائها اللاحقين، وحتى ممن ناصبوها العداء
طويلاً.
خامسًا: قد يبدو الحديث عن عدم تحميل حماس كحركة
تحرر فوق طاقتها متعارضًا مع مفهوم الأمة الواحدة الذي ندعو إليه، بيد أن هذا التعارض
يزول لسببين:
الأول: متعلق بضرورة جعل فلسطين محل إجماع لا محل
انقسام، وتخليصها من أشكال الاستخدام والمزايدة، وهذا لا يخدمه أبدًا الانخراط باسم
فلسطين في أي إشكال عربي، خاصة وأن الفلسطيني هو الطرف الأضعف دائمًا.
والثاني: أن الواجبات قد تتزاحم، وحينها يكون الالتزام
بالواجب الألصق، والقيام بأمانة الثغر الأقرب، خاصة إذا كانت المشاركة في واجب ثغر
آخر على حساب الثغر الأقرب، والقرب والبعد هنا، بالمعنى الوظيفي الذي أملاه الواقع،
وليس بناء على تصورات هوياتية وطنية ضيقة.
* أفكار للحاضر والمستقبل:
هذه الملاحظات، وغيرها مما لم يتسع لها المقام،
يمكنها أن تفتح مجالات هامة للعمل، وهي كلها تجعل حركة التغيير في الأمة، والقضية الفلسطينية،
تخدم كل منهما الأخرى على نحو وشائجي، فلا يوجد انفصال بينهما من حيث الأصل، وبهذا
تبدو حماس مطالبة، بوضع خطة عمل تهتم بتنفيذ بعض الأفكار التي منها:
أولاً: التواصل مع كل مكونات الأمة، لشرح وظيفة
حماس كحركة تحرر، وحاملة أمانة على ثغرها الفلسطيني، واحتياجات هذا الثغر التي قد لا
تبدو مفهومة أحيانًا لبعض الأطراف المناصرة لمشروع المقاومة في فلسطين.
فكل طرف داعم أو متعاطف مع حماس يرغب بأن تكون الحركة
على صورته، فبعض القوى الإسلامية السنية المسكونة بالهاجس الطائفي لم تكن قادرة على
فهم اضطرار حماس للعلاقة بإيران، بينما اهتمت إيران بتوظيف دعمها لحماس في سياق مشروع
خاص قد يتعارض في بعض المحطات مع مشروع مقاومة الاحتلال!
ثانيًا: تحميل الأمة، بكل قواها، مسؤوليتها تجاه
فلسطين، ومنح فلسطين الأولوية في قضايا واهتمامات الأمة، انطلاقًا من كون فلسطين هي
عنوان التحرر والتغيير الحقيقي، وأن نهضة الأمة لا يمكن أن تتم مع استمرار الحالة الاستعمارية
في المنطقة، وأن الواجب الديني تجاه فلسطين ليس منوطًا بسكان فلسطين وحدهم، خاصة والحديث
عن بقعة مقدسة لدى المسلمين جميعًا.
ثالثًا: دفع الحركة الإسلامية العالمية، لإعادة
النظر في خطابها المتماهي عمليًا مع النزعات الوطنية، التي حين تتضخم لا بد وأن تكون
على حساب فلسطين، وحساب أي رؤية عربية وإسلامية تكاملية، بل وعلى حساب المشروع الإسلامي
نفسه، وهو ما يفسر كثيرًا من مظاهر شقائنا العربي.
رابعًا: هذه الأفكار تعتمد على التواصل الرسمي والفعاليات
الجماهيرية والثقافية والإعلامية، وهو ما يتطلب إصلاح مؤسسات الحركة، وإعادة توظيفها
بما يخدم تلك الأفكار على ضوء رؤية فكرية وخطة عمل واضحة، مع إنشاء أشكال تعاون مع
كل المؤسسات والفعاليات التي تؤمن بهذه الأفكار.
خامسا: صياغة رؤية فكرية واضحة ومتسقة، تعالج كل
القضايا المشكلة بالنسبة لطبيعة الحركة ووظيفتها وسلوكها وتحالفاتها وثوابتها، بحيث
تشكل أرضية صلبة تقف عليها قاعدة الحركة في رؤية ذاتها ورؤية المحيط والعالم وطبيعة
المشروع الذي تحمله.
كما إنها تشكل أيضًا أرضية للآخرين للتعامل مع الحركة
وفهمها، وانطلاقًا من هذه الأرضية تتضح للجميع علاقة الحركة بمكونات الأمة المختلفة،
وثوابتها التي لا تقبل التحول، وتتحدد المجالات التي يمكن للحركة أن تتحرك فيها في
المحيط العربي والإسلامي، والخطاب الذي يمكن أن تقدمه للعالم، والمساهمة التي يمكن
أن تقوم بها خارج الحيز الفلسطيني.
وهذا أيضًا يحتاج مناقشات واسعة يشترك فيها الجميع،
وإصلاح مؤسسات الحركة، بتفعيل سبل التواصل بين أجسام الحركة، وبين القيادة والقاعدة،
وإيلاء المجال الفكري العناية اللازمة به، بحيث لا يكون ثمة فجوة بين تصورات وآمال
وتوقعات قواعد الحركة وقيادتها.
وختامًا؛ حماس ليست في أي أزمة وجودية، ما تمسكت
بمبادئها الأصيلة، المتعلقة بالصراع في فلسطين، وهي كذلك إن شاء الله، وطالما بقيت
ترى نفسها حركة تحرر وطني، فإنها باقية قوية ما بقيت تمارس دورها كحركة تحرر.
وقد تعرضت لحملات استئصال تستهدف وجودها كحركة مقاومة
منذ تأسيسها، فاستهداف الحركة في وجودها ومواردها وسبل دعمها كان حاضرًا دائمًا قبل
إنشاء السلطة الفلسطينية وقبل دخولها فيها، ولا يمكن أن نتخيل أي وضع آخر لا تكون فيه
حماس مستهدفة، ما بقيت حركة مقاومة.
والجراح في المعارك المفتوحة، تنبه الوعي إلى أخطاء
المسار، وتفتح له آفاق المستقبل.