حماس وخطى فتح!
بقلم: ساري عرابي
قديم هو القول بأن حماس
هي الوجه الملتحي لفتح، ودائما، ورغم كل التحديات والمخاوف، كانت حماس تعود وتثبت أن
هذه المقولة مستعجلة أكثر مما ينبغي، وهي مقولة لا تصدر عن نية واحدة، وإنما عن نوايا
شتى، وتقوم على أسس متباينة قوة وضعفًا، وتتمظهر في أشكال مختلفة، منها الخوف الصادق
على حماس، وعلى ما أنفق الآلاف أعمارهم في سبيله، وعلى القضية التي باتت معلقة في آخر
آمالها على حركة المقاومة الأكبر، لرد الانحراف قدر الإمكان، ولفتح نافذة من الأمل،
بعدما انحرفت فتح عن منطلقاتها وثوابتها الأولى.
وفي جملة يمكن القول بأن
هذه الحركة ملك الآلاف الذين صاغوها وأنضجوها من دمائهم وأعمارهم وأعصابهم وأمنهم وأرزاقهم
وكل من ساهم فيها ولو بكلمة أو قطرة عرق، وملك جنود مجهولين لم يعبؤوا بحقوقهم المعنوية
والمادية، ولم يتطلعوا إلى قيادة أو صدارة، واكتفوا بالاطمئنان إلى مضي حركتهم على
ما قتل عليه شهداؤها، وهي ملك الفلسطينيين كلهم، وملك الأمة كلها، بما ينبغي أن يكون
واعظًا دائمًا في وجدان من يتصدر لقيادتها، وقد كان هذا وغيره من الأسباب التي حفظت
الحركة، وحالت دون انحرافها، بالرغم من أن تاريخها لم يخل من نزعات سياسية تملكت بعض
أصحاب الرأي فيها وشكلت خطرا على ثوابت الحركة ونهجها الصحيح.
ولا شك أن بعض المتخوفين
على مسار الحركة يصدر عن إيمان بأن له حظًا فيها، وبعض يصدر عن نزعة ثقافوية متعالية
ترى كل فرقاء الساحة الفلسطينية سواء، وهي نزعة معهودة عند المثقفين، وبعض بصدر عن
رغبة في رؤية حماس وهي تنحرف عن مسارها، فيجد متعة خاصة وهو يشبهها بفتح، وكل يبني
مقولته على مقارنات ما بين حماس وفتح لا يخلو بعضها من فساد واضح، وعلى معطيات تتفاوت
في تماسكها، وهنا لا بد من ضابط منهجي لكي توضع التفاصيل في سياق عام ناظم، إذ لا يمكن
الاستناد إلى محض تغير التحالفات، أو إلى زيارة عابرة إلى السعودية، للقول بأن حماس
قد انحرفت أخيرًا، فأكثر ما قدمته حماس من مقاربات سياسية فيها الكثير مما يمكن التحفظ
عليه، حصلت والحركة موجودة في دمشق، وفي مقدمة ذلك دخولها الانتخابات التشريعية، وورقة
محددات البرنامج السياسي، ووثيقة الوفاق الوطني، واتفاق مكة، وبعض الصياغات الملتبسة
بخصوص قرارات ما يسمى بالشرعية الدولية، ومؤتمرات القمم العربية.
وإذا كان ذلك يعني أن الحركة
من الممكن أن تقدم على مبادرات سياسية ملتبسة أو باعثة على المخاوف، فإنه أيضًا يؤكد
أن الحركة ورغم دخولها السلطة الفلسطينية، واتساع علاقاتها الإقليمية والدولية، وما
قدمته من مقاربات سياسية مشكلة؛ لم تلق سلاحها، وجهزت جيشًا مقاومًا في قطاع غزة، بما
يجعل تشبيهه بالأجهزة في الضفة ظالم جدًا، بصرف النظر عن تقييمنا لدور ووظيفة المقاومة
في غزة، ففي النتيجة فإن التهدئة يجري استغلالها للإعداد والتجهيز للمقاومة وهو أمر
منعدم في الضفة الغربية تمامًا، وهذا الفارق في رأيي جوهري وليس عرضيًا، ويضاف إلى
ذلك أن هذه الحركة، التي لا يكاد يخلو وقت من اتهامها بترك المقاومة، هي حركة المقاومة
الوحيدة إلى جانب حركة الجهاد الإسلامي، التي بقيت تخوض المواجهات والمعارك منذ العام
2006 إلى اليوم.
هدف هذه المقدمة هو وضع
المخاوف في إطار طبيعي لا ينفيها ولا يعطيها أكبر من حجمها، كأساس موضوعي لمناقشة مبادرة
بلير.
يمكن قول الكثير عن الأسباب
الذاتية التي ساهمت في وصول حماس إلى الظرف الراهن، سواء من نزعات سياسية لم تقطع تمامًا
مع ميراث فتح، كالعودة إلى طرح فكرة الحل المرحلي، وهو الطرح الذي شكّل في وقت لاحق
أساسًا لبقية المقاربات، بل وحتى لمحاولة الحفاظ على مكتسبات السلطة بعد الفوز في التشريعي،
أو من خيارات سياسية ساهمت في النتيجة في تعليق مصير حماس كلها بمصيرها في قطاع غزة،
كالدخول في السلطة أو الحسم العسكري، أو من تصورات حمّلت قطاع غزة فوق طاقته من جهة
اعتباره أفقًا للمقاومة أو منطلقًا لتحرير فلسطين؛ لكن هذا النقاش على أهميته لا يكفي
لحل معضلة قطاع غزة الحالية، والتي لم تنشأ فقط بسبب سياسات حماس، وإنما أيضًا بسبب
موازين القوى المحلية والإقليمية، والتي أبرزها الدور السلبي للسلطة وفتح، وانقلاب
عبد الفتاح السيسي.
ومن الممكن أن نجادل أيضًا
حول ظروف قطاع غزة، وأن نحاسب حماس إلى خطابها الذي حمّل قطاع غزة فوق طاقته، وما فيه
من ارتباك بين وظيفة المقاومة المتعلقة بمشروع التحرير ثم تقزيمها إلى مقاومة إجرائية
لحل مشكلات القطاع الحياتية، وكيف أن ذلك كله آل بالحركة منذ العام 2007 إلى أن تضع
كل مقدراتها للحفاظ على وجودها في القطاع، مع عجز تام عن إسناد القطاع بالمقاومة انطلاقًا
من الضفة أو من دول الطوق؛ لكن ذلك كله لا ينفي حقيقة الحصار متعدد الأشكال على قطاع
غزة، ولا ينفي أن القطاع في حالة تهدئة فعلية، ولا ينفي أن المقاومة (العسكر تحديدًا)
قد جعلوا رفع الحصار سقف حربهم الأخيرة. وهنا علينا أن ننوه إلى أن حصار غزة شعبًا
ومقاومة يختلف عن الحصار السياسي والاقتصادي الذي تعرضت له مؤسسات منظمة التحرير في
الخارج عقب حرب الخليج الثانية.
في مقابل هذا الواقع، ينبغي
الانتباه إلى أن ظرف حماس مختلف تمامًا عما كان عليه الحال في أواسط تسعينيات القرن
الماضي، حينما كانت حماس خارج السلطة، وقد تماثلت ظروفها ما بين الضفة وغزة، وكان جناحها
في الخارج يملك قدرة أكبر على الإبصار لتحرره من أي ارتهانات إلى ظروف خاصة، وقد ساهم
هذا الجناح في ذلك الوقت بنفس القيادة الحالية في الحفاظ على ثوابت الحركة ومسارها
الصحيح، بينما اليوم، يكاد ينحصر الوجود التنظيمي الفاعل لحماس في غزة، ويجد جناح الخارج
نفسه مضطرًا إلى دول سقفها منخفض جدًا بالنسبة لبرنامج حماس المقاوم، الأمر الذي يحدّ
من خياراته، ويكبح من قدرته على المناورة.
هذا الظرف الحرج، قد يحول
دون رؤية كامل المسؤولية التي تتحملها حماس تجاه القضية الفلسطينية، ولا سيما جوهر
الصراع في القدس والضفة الغربية، حينما تنفصل غزة باتفاق خاص بها وتصبح مجرد منفى للمقاومين
من الضفة الغربية، التي يجري العمل على تطويقها شرقًا وغربًا بالمستوطنات، وفصل مدنها
عن بعضها بالمستطونات أيضًا، لتصبح مراكز وجود الفلسطينيين جيوبًا معزولة عن بعضها،
فضلاً عن أن أي حرب قد يفتعلها العدو مع غزة بعد الاتفاق، إن تم، ستكون أكثر ضررًا
وأكبر تدميرًا، وهو ما سيحوّل نضالاتنا إلى حلقة مفرغة إلا من اليأس والإحباط.
في حال وضعنا أزمة قطاع
غزة الحالية في السياقات التاريخية التي أوصلت إليها، وحددنا المسؤوليات بدقة عن الخيارات
السياسية الخاطئة، ووضعنا ذلك كله في السياق الوطني الأعم، والمسؤولية الأساسية تجاه
كامل القضية الفلسطينية، سنتمكن من تحديد المخاطر الحقيقية لمبادرة بلير، وتقدير الموقف
الصحيح من الخيارات الممكنة تجاه الحصار الحالي على قطاع غزة.
المصدر: العربي21