القائمة

مواقع التواصل الأجتماعي
الأربعاء 27 تشرين الثاني 2024

حماس ويوتوبيا الذاكرة

حماس ويوتوبيا الذاكرة

بقلم: حسام أبو حامد

لقي قرار مديرية التربية والتعليم في قطاع غزة، والتي يبدو أن نفوذاً كبيراً لحركة حماس فيها، والقاضي بتغيير اسم إحدى مدارس رفح، من مدرسة غسان كنفاني إلى مرمرة، استنكار مثقفين فلسطينيين، واحتجاج الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، وعاد ليشعل مواقع التواصل الاجتماعي التي لم تكد تهدأ بعد الموجة التي كان قد أثارها رسم كاريكاتيري اعتبر مسيئاً. وبعد نفي وكيل الوزارة زياد ثابت، تداول ناشطون، صورة لقرار صادر عن مديرية التربية والتعليم في غزة، موقعا باسم مدير التربية والتعليم، أشرف عبد العزيز عابدين، ينصّ على تحويل اسم المدرسة من "غسان كنفاني الأساسية بنات"، إلى مدرسة مرمرة الأساسية بنات".

أخيراً، صدر توضيح عن مدير التربية والتعليم، بيّن فيه أن اسم غسان كنفاني كان يطلق على مدرستين منفصلتين متجاورتين، وتم تغيير اسم إحداهما فقط، المخصصة للبنات. وفي محاولة للتقليل من شأن تغيير الاسم، الذي يبدو أنه لا يستحق في نظر مدير التربية تلك الضجة، ومن باب رمي الكرة في الملعب الآخر، كما يقال، أفاد التوضيح بأن المدرسة كانت تسمى مدرسة النجاح الإعدادية المشتركة، وغُيّر اسمها إلى غسان كنفاني، بعد اتفاق بين مروان كنفاني وإدارة المدرسة، قدم الأول بموجبه مولدة كهربائية، مقابل تسمية المدرسة باسم أخيه الراحل، وذلك في العام 1994، حين كانت غزة تخضع للسلطة الوطنية الفلسطينية.

في كل حال، لم يعد خافياً أن حالة الانقسام الفلسطيني التي تجسدت جيوسياسيا على الساحة الفلسطينية منذ 2007، كانت قد احتدّت، أولاً، في مستوى الذاكرة الجمعية الفلسطينية. وكان الصراع على رموز تلك الذاكرة أحد أشكال الصراع الفلسطيني الفلسطيني. فمنذ انطلاقة حماس، جرى العمل الممنهج على استبدال الرموز: الاستشهادي بالفدائي، والجهاد بالكفاح الوطني، وشعر المجاهدين، المجوّد والخالي من الإيقاع، بالأغاني الوطنية التي غنتها فرق وطنية كـ "العاصفة" و"العاشقين" وغيرها. لم يكن على حماس بذل مزيد من الجهد للقيام بعملية الـ re-format المطلوبة للذاكرة الفلسطينية، لتعزيز أيديولوجيتها ونفوذها في الشارع الفلسطيني، في وجه فصائل منظمة التحرير، لا سيما حركة فتح، بعد تحول ألوف الفدائيين السابقين منذ أوسلو، إلى رجال للأمن، والحرس الرئاسي، وشرطة لمكافحة الشغب. وفي ظل "مسيرة السلام"، كان على الفن الفلسطيني في وسائل إعلام السلطة أن يكف عن الحث على الكفاح المسلح، ليمتدح بدلا من ذلك أغصان الزيتون، في وقت كانت فيه أشجار الزيتون نفسها تقتلع على أيدي جيش الاحتلال وقطعان المستوطنين. تقاعست القوى والفصائل الفلسطينية عن دعم تجارب الكفاح الشعبي السلمي للمجتمع المدني الفلسطيني في الضفة، في ظل غياب توافق على استراتيجية نضالية وطنية شاملة، تجمع بين المقاومة الشعبية والكفاح المسلح، آخذة بالاعتبار العوامل الموضوعية والإمكانات الذاتية لتقنين كفاح الشعب الفلسطيني، وتحويله من ردود أفعال آنية إلى ديمومة نضالية، بعيداً عن التجاذبات السياسية والأيديولوجية الفصائلية.

وفي ظل وحشية الاحتلال وإجرامه بحق الفلسطينيين، بقي صوت الدعوة للثأر والرغبة في الانتقام يدوّي عالياً، لتستمر حماس في تلقفه، وتفرض نموذجها في المقاومة، وتمضي في مصادرة الذاكرة الفلسطينية المشبعة بالمعاناة والعسكرة.

تدرك حماس أهمية السيطرة على الذاكرة الجمعية الفلسطينية، وخطورتها، في الوقت نفسه، حيث تؤول رموز الذاكرة إلى مثل عليا، يصبح ممكناً من خلالها استصدار أحكام قيمة، ومن خلالها يتم تصنيف بعضهم إلى مقاومين، وآخرين إلى متنازلين ومفرّطين. هكذا يصبح إقصاء رموز الذاكرة إقصاءً فعلياً لمن يمثلها من "الخصوم". ومن هنا، نقرأ محاولات حماس المستمرة لمنع أو عرقلة إحياء ذكرى الراحِلَين، محمود درويش وياسر عرفات، في غزة.

لا تمارس حماس نموذجها في المقاومة، بل هي تمارس السلطة أيضا. وإذا كان بعضهم يبدو مطمئنا إلى أن براغماتية حماس السياسية تحررها من إسلامويتها، فإن ممارستها للسلطة في غزة ترتكز على تلك الأيديولوجيا التي يمكن تقصّيها في ميثاق الحركة وأدبياتها، ومناهج الدراسة في الجامعة الإسلامية في بغزة، والبحوث الصادرة عنها، والتي بموجبها يغيب مفهوم محدد للوطن، حين يصبح أي قطعة أرض تسيطر عليها "الجماعة المسلمة"، وتمارس فيها سلطتها. وحيث لا تكون الديمقراطية سوى تعطيل لشرع الله، فلا قيمة لأقلية أو أكثرية، إلا بقدر اقترابها من هذا الشرع، كما يفهمه فقه حماس. وعلى تلك الأرض، لا تستحق الحياة أي "جاهلية"، حتى تحت مسمى الوطني، وما النضال إلا جهاد عالمي يبشر بفتح روما النصرانية.

تسيطر هذه اليوتوبيا، بأيديولوجيتها، على مجتمع غزة، المحاصرة أيضا، بقوة تصريحات قادة حماس، وما فيها من أمل فائض عن الحاجة. في الوقت الذي تحاصر فيه الضفة بعجز السلطة وقطعان المستوطنين. ولا يزال نموذج حماس في المقاومة/الجهاد بعيداً عن تحقيق أهدافه، وكغيره من النماذج المطروحة على الساحة الفلسطينية، هو خارج عن أي توافق فلسطيني، بل بات عاملا في تعزيز الانقسام. وكما يتفرد الرئيس محمود عباس بقرار السلم في الضفة، تتفرد حكومة حماس في غزة، بقراري الحرب والسلم، وكلاهما يتقاسم "لا شرعية" ناجمة عن ولاية رئاسية منتهية وحكومة مقالة، في ظل سلطة تشريعية منقسمة ومعطلة.

لم يكن غسان كنفاني أحد رموز الذاكرة الفلسطينية فقط، بل سجلا لها أيضا، عكس في أدبه معاناة الفلسطيني/ الإنسان، الذي حين يحمل بندقيته، يحملها دفاعاً عن إنسانيته، لا لمجرد القتل والانتقام. لذا ظل أدبه يقلق الإسرائيليين حتى بعد موته. ففي العام 2012 أصدر وزير التربية والتعليم الإسرائيلي، جدعون ساعر، قراراً يقضي بإلغاء قصة لغسان كنفاني موجهة للأطفال "القنديل الصغير"، من برنامج تعليمي نفّذ لصالح تلاميذ الصف الخامس الابتدائي، في مدارس يهودية كثيرة في إسرائيل، بعد اعتراض أهالي الطلاب. وبُرّر قرار الإلغاء بأن كنفاني كان المتحدث باسم الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين. أدرك الكاتب الراحل، وغيره من رموز الثقافة الفلسطينية، أن البندقية تضل طريقها من دون الثقافي، فالثقافة ضرورية طالما لا يمكن اختزال الصراع مع الاحتلال بالعسكري وحده، بل هو أيضا صراع على القيم، وأنه لا بد للضحية من أن تتفوق أخلاقيا على الجلاد. فإسرائيل المطمئنة لتفوقها العسكري لا تخشى البندقية منفردة، بل طالما استغلتها لتظهر بصورة الضحية. أما هزيمتها الأخلاقية، فهي المقدمة لهزيمتها عسكرياً. من هنا، ندرك أهمية الثقافة ورموزها في الذاكرة.

"مرمرة" ورجالها يستحقون كل تكريم وشكر وامتنان. لكن، بالقدر نفسه، تستحقها راشيل كوري التي قتلت وهي تحاول منع الاحتلال من اقتلاع أشجار الفلسطينيين ومنازلهم في الضفة. لكن، حين يخضع التكريم للحسابات الأيديولوجية والسياسية والمناطقية، أو لإرضاء جهات مانحة أو مساندة، فلا شك أنه يفقد معناه، بل يصبح مجرد رياء سياسي. وفي كل حال، لا يكون التكريم على حساب الذاكرة الفلسطينية، وعبر إقصاء رمز وطني، ويساري، بصريح العبارة، من باب الخصومة الأيديولوجية ومعارك الذاكرة. فلا يمكن لحلم الخلافة الذي تدغدغه سفينة مرمرة الأردوغانية أن يكون بديلاً عن حلم الوطن، مهما اختلفت أيدولوجيا الحالمين بهذا الوطن.

وبعيدا عن انتهازية بعض قوى اليسار التي اعتادت، للأسف، الاستقواء بالمنتصر في الساحة الفلسطينية، فإن كثيرين من مثقفي اليسار استطاعوا تخطي الأيديولوجي، ليقفوا بصدق مع حق حماس في المقاومة، فجبَّت المقاومة لديهم ما قبلها من أيديولوجيا. لكن، بالنسبة لحماس، لا تزال الأيديولوجيا تجبُّ "الآخر"، وتفترضه في آن معا.

المصدر: العربي الجديد