حملة «انتمــاء» في الذكرى الرابعة والستين للنكبة كيف حافظ الفلسطينيون على هويتهم؟
بقلم: ياسـر عـلي
خاص/ لاجئ نت
في كل عام مثل هذه الأيام تعقد المؤتمرات الفلسطينية المتعلقة بفلسطين، من أوروبا إلى بيروت، وفي معظم مراكز الشتات الفلسطيني. عدا عن الأنشطة الصغيرة والخاصة بالمؤسسات الفلسطينية الاجتماعية، كالأمسيات الشعرية والسهرات التراثية والمحاضرات العامة والتخصصية وورش العمل. كل ذلك يشير إلى أن القضية الفلسطينية ما زالت قضية محورية لدى الشعب الفلسطيني أينما حل أو رحل..
في هذا العام تميزت الحملة الوطنية للحفاظ على الهوية الفلسطينية «انتمــاء» بمشروع «خيمة العودة» التي كان لها أثر كبير في مساق استعادة الذاكرة كركن أساسي من أركان الحفاظ على الهوية.
الهوية
ولعل هذه الظاهرة كانت سبباً في لفت النظر إلى موضوع مهم جداً، وهو سؤال هذا المقال: كيف حافظ الفلسطينيون على هويتهم ولم يذوبوا في المجتمع اللبناني أو المجتمعات العربية والغربية التي تشتتوا فيها؟
كان البعض يرى أن القُطرية بغيضة، وربما رأى آخرون أن الهويات قاتلة (كما يرى الكاتب أمين معلوف)، إلا أنهم عادوا فرأوا أن الحفاظ على الهوية أمر ضروري جداً إزاء مؤامرات تغييب فلسطينيي الشتات وتذويبهم في مجتمعاتهم قسراً، وخصوصاً أن هذا التذويب قد يُفقدهم بالضرورة حق التطلع إلى العودة لبلادهم في يوم من الأيام.
المنطلقات
أسباب الحفاظ –عموماً- على الهوية تنطلق من عدة منطلقات، وترتكز على مجموعة ركائز هي الأساس في المحافظة على الهوية. ويترتب على هذه المنطلقات مظاهر تميز الهويات عن بعضها.
لذلك فإن الحديث عن المظاهر بالتفصيل يتطلب أن نخوض في المنطلقات التي كانت هي الأساس الذي تسبب في تجذر الهوية الفلسطينية لدى الأقليات عموماً والفلسطينيين خصوصاً.
ولا بد هنا من التأكيد على أن الارتباط بالأرض والوطن والثقة بالنصر والعودة كان كبيراً، انطلقت التوعية من المنطلقات التالية:
1- المنطلقات الدينية
آمن الفلسطينيون بأن أرضهم مقدسة، ففيها مهد المسيح عليه السلام، وفيها مسرى الرسول صلى الله عليه وسلم، فهي أرض النبوات ومهبط الرسالات، ولعل من مظاهر هذه المنطلقات، هو البعد الديني في حتمية الصراع مع العدو، وتجذُّر هذا البعد في تعميم ظاهرة الاستشهاديين الذين يرون الموت هناك إنما هو موت في سبيل الله.
ولئن كثرت نظريات الصراع على فلسطين، فهناك من يقول إن معركتنا مع اليهود، وآخرون يقولون بل مع الصهاينة، وغيرهم يقول مع الاحتلال، فإنه في عمق التراث والذاكرة الفطرية والوعي الشعبي الفلسطيني يرى العامة في النهاية أنها معركة بين من يريد حقه ممن اغتصب هذا الحق، أي معركة بين حق وباطل، كما هي دائماً السنن الكونية.
2- المنطلقات التاريخية
إن التجذر الفلسطيني في فلسطين من عهد الكنعانيين واليبوسيين (كعرب)، ومن عهد الفتح الإسلامي الذي أخرج الروم المحتلين، ولم يدخل القدس إلا بالاتفاق مع أهلها كما في العهدة العمرية، التي أعطاها الخليفة الفاروق رضي الله عنه للبطريرك صفرونيوس (يقول الأب عطا الله حنا: نحن أحوج ما نكون الآن إلى عمَر جديد وصفرونيوس آخر..). ودخل المسلمون يومها دخول الفاتحين الذين حرروا الناس من الظلم الروماني.
3- المنطلقات السياسية
وتمظهر ذلك في إصرار الفلسطينيين على حقهم ووجودهم في الأطر العربية والدولية، وفي النضال من أجل استعادة الحقوق، ومنها إنشاء المنظمات الفلسطينية المقاومة، وكلما خف التزام حركة أو مقاومة انتفض آخرون وقاموا بحركة بديلة ما يعني أن فتيل المقاومة يجب أن يظل مشتعلاً مهما تبدلت الأُطر والتنظيمات الحاضنة لهذه المقاومة (وربما اعتبر البعض هذا –في الوقت نفسه- عامل ضعف أيضاً، ولكنها سنّة التدافع). ومنها تعاون الدول العربية وجامعتها والمنظمات الدولية في الحفاظ على قضية اللاجئين حية، والحؤول دون اندثارها وذوبانها.
كما أن الثورات وحركات التحرر العربية على الاستعمار أبقت جذوة المقاومة في النفوس العربية، وساهم في ذلك دور الفلسطينيين في بعض هذه الثورات..
4- المنطلقات الاجتماعية
لم ينتشر الفلسطينيون ليندثروا! بل تجمعوا في مخيمات وتكتلات وتجمعات تؤكد أن وجودهم في تلك المناطق استثنائي، وتحرص على عدم إذابتهم في المجتمعات التي لجأوا إليها. وأن الحالة الطبيعية هي أن يسكنوا في مدن وقرى، وليس في مخيمات كما هو الحال القائم.
كما أن هذه التجمعات والتكتلات زادت من أواصر التقارب والعلاقات الاجتماعية، في الأفراح والأتراح والمناسبات العامة.
5- المنطلقات الثقافية والتراثية
التراث (وهو من الماضي) هو أحد أهم عناصر الخصوصية الثقافية (وهي من الحاضر)، لذلك كان الحفاظ على التراث هو حفاظ على الوجود.
وفي الحالة الفلسطينية، لا زالت هناك أغاني الفلاحين والمواسم ومناسبات الأعراس والمآتم، ولا زالت هناك ظاهرة الكتب التراثية التي تتناول القرى الفلسطينية، وقد تخصص البعض في تسهيل قراءتها فأصدر نماذج عن هذه الكتب للأطفال. وهناك شخصيات قامت بمحاولات فردية لهذه الكتب. مثل الأستاذ حسين علي لوباني (الذي له أيضاً كتاب معجم الأمثال الفلسطينية وواحد وعشرين معجماً في التراث الفلسطيني) والأستاذ محمود دكور (الذي أنشأ أيضاً المتحف الفلسطيني).. ورائدهم في هذا النشاط الفردي هو مصطفى مراد الدباغ (الذي ألف كتاب «بلادنا فلسطين» من أحد عشر مجلداً).
وما زالت توصية الكبار للصغار، وتسليم المفاتيح وأوراق الطابو الخاصة بالأرض إحدى أهم الثروات التي تُتوارث، وما زالت قصص الأمهات والأجداد للأطفال تحكى في ليالي السمر الشتوية..
ولا ننسى هنا دور الشعراء الفلسطينيين والأدباء والمثقفين الذين شكّلوا ظاهرة واعية لم يشهد الوطن العربي مثلها.
هذا الاهتمام الثقافي والتراثي تجلّى في ذروته الفنية «التغريبة الفلسطينية»؛ المسلسل الذي كان حديث الناس في العام 2004 ومازال حتى اليوم.
6- المنطلقات التربوية والتعليمية
إذا كانت المخيمات ظاهرة اجتماعية وسياسية، فإن انعكاسها التربوي يتجسد في المدارس الفلسطينية التي أقامتها الأونروا للفلسطينيين، وكانت كل مدرسة تتسمى باسم مدينة أو قرية فلسطينية. وقد انتهجت هذه المدارس منهجاً في التربية والتعليم خاصاً بها، وذلك بإضافة أكثر من مادة تتعلق بالقضية الفلسطينية (جغرافيا وتاريخ وسياسة ومقاومة)، كما أن كل مخيم فيه أكثر من مدرستين وعدة مساجد بأسماء فلسطينية. عدا عن الحارات في المخيمات التي سميت بأسماء القرى وأهلها..
وبعد
هذا ما حاولنا اختصاره في هذه العجالة، خاصة وأن كل منطلق من المنطلقات التي ذكرناها تحتاج مقالاً خاصاً وربما كتاباً.
ربما لا يحتاج المرء دليلاً بعد هذا على أن الفلسطيني يتمسك بحق العودة ويطالب به، ويرفض التوطين (هذا القميص الذي يمسك به كل طرف من جهته)، لا كرفض جماعة اليمين اللبناني «للغرباء»، بل تمسكاً بحقوق لا تعوضها أموال الدنيا طولاً وعرضاً.