القائمة

مواقع التواصل الأجتماعي
الأربعاء 27 تشرين الثاني 2024

ختم حياته بالحج: أحمد الجعبري الإنسان الذي وكّل أمره لله

ختم حياته بالحج: أحمد الجعبري الإنسان الذي وكّل أمره لله

بقلم: أمينة زيارة

عند شجرة الزيتون التي كان يجتمع تحتها مع أفراد عائلته، جلست الحاجة «أم أحمد الجعبري» تبكي عزيزاً كان قبل شهر مضى يشاركها الذكريات والألم واستئناس شيخوختها، أحمد ابن العمر ورفيق الدرب، ومرضي الوالدين، أصبح صورة تُزين غرفة والدته «الختيارة» التي لا يزال قلبها ينبض شباباً، مستمداً ذلك من حبّه وعطفه عليها. «فلسطين المسلمة» حلّت ضيفة على بيت الجعبري الذي وجدت فيه الدفء والحب، اللذين زرعهما الشهيد في أفراد عائلته قبل أن يرحل.

أحمد سعيد الجعبري من حي الشجاعية بشرق مدينة غزة، متزوج من اثنتين، وله اثنا عشر ابناً، كبيرهم محمد استشهد أثناء استهداف والده في بيتهما، ومن ثم مؤمن ومعاذ ومالك ومهند ومروة وملاك، وحسين، وعلاء الدين، وعبد الله، وعز الدين، وطفل قادم للدنيا بعد أربعة شهور. ولإدخال الفرح إلى بيته، زوّج الجعبري ابنه مؤمن وهو في الثانوية العامة من شقيقة رفيقه في الحياة والشهادة محمد الهمص ليأتي حفيده «أحمد» قريباً بإذن الله.

على عرفات

في بيتها في حي الشجاعية حيث وُلد أبو محمد، استقبلت الحاجة أم أحمد (70 عاماً) «فلسطين المسلمة» بترحاب لم تتوقعه رغم أنه صفة دائمة لهذا البيت الكبير، حيث تحدثت عن أحمد الطفل قائلة: جاءني أحمد بعد 12 عاماً من زواجي، حيث أنجبت قبله أربعة أولاد وبنتاً، جميعهم ماتوا قبل أن يدخل الواحد فيهم المدرسة. كانت فرحتي لا توصف بمجيء أحمد الذي أنار عليّ الدنيا. وتعود بذاكرتها التي أثّر فيها فقدان أحمد إلى سنوات فاصلة في طفولته قائلة: عندما كنت في فترة حملي بالشهر الرابع، اصطحبني زوجي إلى الديار الحجازية لأداء فريضة الحج، ورغم أن الجنين لم يتحرك في بطني في الشهور الماضية، وأنا على جبل عرفات بدأ ينبض فقلت لأبيه فردّ عليّ وقتها: فليشهد أنه أدى فريضة الحج مثلنا.

وأكملت: كان أحمد باراً بي، ولا ينتقل هنا أو هناك إلا بنيل مرضاتي ودعائي له بالتيسير في جميع خطواته، وكان يأتيني ولو في أحلك الظروف يطلب الرضا، ومن ثم يقبل يدي ويذهب.

لكن هل تذكرين سنوات اعتقاله في سجون الاحتلال وهل كنت تزورينه؟ فترد بتنهيدة شقت سكون الغرفة، وهي تسترق النظر إلى صورته التي أخذت حيزاً كبيراً من حائط غرفتها قائلة: كنت أينما ذهب أجري خلفه، فقد تنقل في جميع السجون الصهيونية، حيث اعتقل لمدة عام في سجن غزة المركزي، ومن ثم انتقل إلى سجن بئر السبع، وبعدها إلى سجن المجدل حيث مكث فيه ما يقارب ست سنوات، وآخر المطاف أنهى محكوميته في سجن نفحة الصحراوي حيث كانت وقتها صفقة تبادل الأسرى، وكان اسمه من ضمن المفرج عنهم مع أنه تبقى عام على محكوميته فرفض قائلاً: لن أجعل الاحتلال يتجمل علي بالإفراج، وآثر أن يتمتع أسرى آخرون أكثر مدة حكم منه، ومكث في السجن لينهي محكوميته. وتصمت قليلاً لتعيد شريط ذكرياتها الذي بدأ بالتآكل من شدة بكائها على الغالي فتقول: في المحكمة جلست أتملى به قبل أن يزجّ بالسجن والدموع تغرق عيني، وعندما تجمع عليه الصهاينة ونطق القاضي بالحكم والذي كان 13 عاماً قال: لا يهزني حكمهم و«على حذائي»، فتكالب عليه الجنود وضربوه بقوة. وتضيف: في كل مرة كنت أزوره فيها أجد عزيمته أقوى من السابق، لم ينهزم من الاعتقال بل بقي صخرة صلبة في وجه العدو، نِعم الرجال كان أبو محمد كما عرفته طفلاً وشاباً ورجلاً بكامل قوته وعظمته.

همّه الأسرى

قالت الحاجة الجعبري: طيلة سنوات عمره كان همّه وأولوياته الأسرى والإفراج عنهم بأي وسيلة كانت، لأنه وعدهم قبل أن يخرج من السجن بأنه سيبذل جهده للإفراج عنهم جميعاً، وظل على عهده حتى أنجز عملية «وفاء الأحرار». ولكن هل كنت مع موقفه في أن يظهر علناً على التلفزيون ليسلّم جلعاد شاليط بيديه للاحتلال؟ فتجيب بقلب الأم الرقيق: بعد عودته والدموع في عينيه وكان قد أدى أمانته قلت له: بورك جهدك يا بني، وكما عهدتك رجلاً في كل المواقف، لكن كنت أتمنى ألا تظهر للاحتلال وأنت تسلم شاليط وجهاً لوجه، وتصمت قليلاً وهي تنظر إلى صوته وتتذكر تلك الدقائق القصيرة من عمره، والتي كان وقتها على موعد مع استقبال محرري مدينة غزة في بيته: «يا أمي توكلي على الله، وادعي لنا بأن نوفّق في إخراج باقي الأسرى»، فلم يأمن لمكر اليهود واطمأن على وصول جميع الأسرى حتى أنه وصل متأخراً للبيت.

وتذكر مناقب فلذة كبدها التي كانت ترى في وجهه نور دنياها، قائلة: تربى أحمد في ظروف صعبة، وسط غياب الوالد في أعماله خارج الوطن. وكان كلما يكبر عاماً يقول لي: صِفي لي والدي.. عظمته وطوله وعقله. وعندما بدأ يكبر أصبح يحمل على عاتقه مسؤولية أشقائه، فكان الأب الروحي لهم، وجامعهم وموثق رابطهم. وتوضح: استشهد شقيقاه فتحي وحسين وابنه محمد وابن أخيه برهان عندما كان يجلس معهم في «حاكورة» البيت يناقشون أمور العائلة، فقد قام لتجهيز نفسه لمتابعة أبنائه المرابطين فضربت الطائرة المكان الذي كان يجتمع معهم فيه، فسقط أخواه وابنه وابن أخيه شهداء، وقد أصيب أبو محمد وأخوه حسن الذي فقد عينه وقدمه.

ألحّ على الشهادة

«سنوات المطاردة طويلة.. وغياب نور العين طال.. والقلب أُوجع من طول الانتظار. وقلق المجيء وملاحقة الطائرات مستمر».. وتتحدث عن سنوات المطاردة وأثرها على نفسها فتبين: كنت لا أنام الليل حتى أطمئن إلى أنه اتخذ مكاناً آمناً يبيت فيها ليله، وأبقى طوال الوقت أترقب أي خبر عن استهدافات، وأوجاع القلب لا تتوقف. وكنت أشتاق كثيراً لحبيب قلبي ونور عيني أحمد، لكن عندما يأتي إليّ كنت أتمنى منه أن يعود أدراجه، وأسارع الدقائق كي يبتعد عن المكان خوفاً من استهدافه. وتكمل: كان رجلاً متوكلاً على الله في كل أمور حياته، لا يخاف طائرة ولا تهديداً، ويتحرك بقلب قوي، ولا يترك ليلة إلا ويذهب للاطمئنان على أبنائه في الثغور –كما كان يقول- باعتباره جيشه الذي جهّزه لمواجهة المحتل والانتصار عليه.

وأدى أبو محمد حجة الوداع قبل أن يرتقي شهيداً، وعن ذلك تتحدث والدته المكلوم: لقد حجّ أحمد مرتين؛ واحدة وهو جنين في بطني، والثانية التي أداها قبل استشهاده بأسابيع قليلة، فكان يتمنى أن يؤدي فريضة الحج قبل أن يلقى الله شهيداً. وتذكر: لم أعلم بأنه خرج إلى أداء الحج إلا بعد غياب عشرة أيام، عندما صرت أسال عنه كثيراً، وأنه تأخر عليّ في الزيارة على غير عادته، إلا أن إخوته أخبروني أنه ذهب لأداء فريضة الحج. وتابعت: من حضر معه الحج سمع دعاءه المتكرر وبكاءه الشديد وهو يرجو من الله أن يمنحه الشهادة عاجلاً، ويلح على الله بالدعاء كي يستجيب له. وتوضح: يوم عودته نزل عليّ في البيت، وطلب مني الرضا، خاصة أنه علم بأنني غضبت من ذهابه دون توديعه، فضحك ومسح على رأسه وقال لي: الآن أنا جاهز للشهادة، فقد أديت الحج، وقمت بدوري تجاه وطني ودعوتي وقضيتي، ودعوت الله أن يستجيب لي بأن أكون شهيداً.

من دمه شعلة الانتصار

وتسترق بعض الابتسامات وهي تتذكر ابتسامته التي رسمها على وجهه كي يرضيني بعد عودته من الحج قائلاً: السنة القادمة سوف أصطحبك مع زوجتّي إخواني الشهداء فتحي وحسين، وسنؤدي الفريضة سوياً «ولا تزعلي يا حجة».

وتعد أيام فراقه فتقول لـ«فلسطين المسلمة»: مضى على استشهاده شهر وثلاثة أيام وثلاث ساعات ونصف الساعة، رحمه الله. وتكمل: ليلة استشهاده جاءني واصطحبني لأبيت معه في بيته وبين أبنائه، وسهر معي طوال الليل، وطلب العشاء على غير عادته كي يكون الأخير بيننا، ثم قام ولبس عتاده ليذهب للاطمئنان على جيشه في الرباط، وقبل خروجه بدقائق بدأ يتفقد أبناءه في الغرف ومن ثم قبّل يدي وقبلني وخرج ولم يعد إلا شهيداً، وقالت: ما بين تركه للسيارة التي تقله مع ابنه مؤمن وركوبه سيارة الشهيد الهمص ست دقائق حيث استهدفته طائرات الاحتلال ونجا منها مؤمن.

أضافت: جهّز أبو محمد جيشه بكل عتاده واستعداداته، وكان دمه شرارة المعركة وشعلة الانتصار، فمنه أضاء لأهل غزة نور الكرامة والعزة، فرحم الله حبيبي وفلذة كبدي أبو محمد.

المصدر: مجلة فلسطين المسلمة