القائمة

مواقع التواصل الأجتماعي
الأحد 24 تشرين الثاني 2024

خطاب الرئيس الفلسطيني محمود عباس في الميزان

خطاب الرئيس الفلسطيني محمود عباس في الميزان

عليان عليان

من تابع ويتابع المواقف وردود الفعل الفلسطينية والعربية على قرار قيادة منظمة التحرير الذهاب للأمم المتحدة بهدف الحصول على عضوية دولة فلسطين فيها، وكذلك ردود الفعل على خطاب الرئيس الفلسطيني محمود عباس في الجمعية العامة للأمم المتحدة، يكتشف أن هناك من يمجد الخطوة والخطاب وما ورد فيه بالمطلق، انطلاقاً من انتمائه السياسي والتنظيمي، وهناك من يطلق النار عليه ولا يرى فيه أي نقطة إيجابية لصالح القضية الفلسطينية، انطلاقاً من عقلية ومواقف مسبقة، ومن تفسير الأمور من زاوية المؤامرة فقط.

وهنالك من اتخذ موقفاً سلبياً من الخطوة والخطاب انطلاقاً من حالة الاحتجاج على التفرد في اتخاذ القرار، وقدم في لحظة غضب قراءة غير دقيقة للخطوة والخطاب، لكنه عاد وقدم قراءة موضوعية لهما.

وهنالك فريق قرأ الخطاب بموضوعية رغم موقفه الرافض جملة وتفصيلا لاتفاقات أوسلو، واستطاع أن يميز ما بين ما هو إيجابي وما هو سلبي في الخطاب، في ضوء قراءة موضوعية له في سياق المتغيرات المحفزة له، وهذا الفريق يتوزع على كافة الفصائل والشخصيات الوطنية.

وقبل أن نضع الخطاب في الميزان لا بد من التوقف عند الظروف المحلية والإقليمية والدولية التي جاء فيها التوجه الفلسطيني للأمم المتحدة، للحصول على عضوية فلسطين والتي جاء فيها خطاب أبو مازن، وبهذا الصدد نشير إلى ما يلي:

أولا: جاء خيار الذهاب إلى الأمم المتحدة مبكراً منذ أكثر من عام إثر الانكشاف التام لبؤس خيار أوسلو بوصفه وصفة صهيو- أمريكية لتصفية القضية الفلسطينية، وبعد اكتشاف قيادة منظمة التحرير أن المفاوضات باتت عبثية ووصلت إلى مأزق وطريق مسدود، وأن العدو استثمرها للتغطية على عمليات التهويد ومصادرة الأرض والاستيطان ولخلق حقائق أمر واقع على الأرض لتثبيتها في التسوية النهائية.

ثانياً: جاء هذا الخيار بعد إدراك قيادة المنظمة أن الإدارة الأمريكية تغطي السياسة الإسرائيلية بالكامل، بدون أدنى هامش مناورة لها أمام الرأي العام الفلسطيني والعربي.

وبعد إدراكها أيضاً أن هذه الإدارة منافقة وانتهازية تتراجع بسرعة عن مواقفها السابقة بشأن وقف الاستيطان ومرجعية الشرعية الدولية (راجع بيان أوباما في 27 أيار الماضي وخطابيه في اسطنبول والقاهرة عام 2009 بشأن الاستيطان وحدود الدولة الفلسطينية)، وأن كل همها ينحصر في كسب رضا اللوبيات اليهودية لغايات فوز أوباما في الانتخابات الرئاسية القادمة.

صحيح أن هذا الإدراك جاء متأخراً جداً وبعد خراب روما -كما يقال- لكن أن تأتي متأخراً أفضل من أن لا تأتي أبدا، مع التأكيد على ضرورة الوقوف أمام نهج أوسلو منذ عام 1993 لغايات البحث في سبل تجاوزه، في إطار استراتيجية وطنية بديلة وجامعة.

ثالثاً: إن ذهاب قيادة منظمة التحرير إلى الأمم المتحدة لغاية طلب الحصول على العضوية الكاملة فيها، جاء في ظروف الربيع العربي وفي ظروف الثورات العربية لإسقاط أنظمة الاستبداد التابعة في معظمها للإدارة الأمريكية، ما شجعها أن ترفع سقفها السياسي، بحيث يمكن القول إن ما كان معمولاً به قبل هذه الثورات أصبح مكشوفاً بالكامل، وغير مسموح به شعبياً بعدها.

إذ عرت هذه الثورات ما تبقى من دول النظام العربي الرسمي في سياساتها المراهنة على واشنطن، والداعية لعدم إحراجها، ولم يعد بوسع هذه الدول تغطية تكتيكاتها المضللة بشان استمرار المفاوضات والمراهنة على أمريكا، ناهيك أنه في ظل الربيع العربي لا تستطيع قيادة المنظمة مواصلة الالتزام بما ترتئيه بعض دول لجنة المتابعة العربية، خاصة أن مصير العديد من أنظمة لجنة المتابعة بات في رسم الثورات القادمة.

رابعاً: لأن هنالك تململاً في الشارع الفلسطيني في الداخل والشتات جراء الاستمرار في نهج أوسلو ومشتقاته وجراء الانقسام الجيوسياسي بين الضفة والقطاع، عبر عن نفسه ابتداء في «حراك الشعب يريد إنهاء الانقسام» «وفي حراك مسيرات العودة المعمدة بالدم في 15 أيار و5 حزيران الماضي» وبدأ يعبر عن نفسه أكثر من ذلك بالمطالبة بمغادرة المفاوضات واتفاقات أوسلو، التي حولت السلطة وجماهير الشعب الفلسطيني في الداخل إلى رهينة بيد الإدارة الأمريكية والدول المانحة.

خامساً: لان هناك قوى إقليمية صاعدة مثل إيران وتركيا عبرت ولا تزال تعبر عن دعمها للنضال الفلسطيني لغايات تتصل بالمبادئ، أو لتكريس دور إقليمي لها في المنطقة ودخلت في حالة تناقض صارخ مع الكيان الصهيوني، وهذا التناقض بات بالإمكان استثماره -بالإضافة إلى ما تقدم- لغايات القفز من ثنايا أوسلو وخارطة الطريق وأنابوليس وغيرها من الاتفاقات، التي قيد عرابوها الجانب الفلسطيني بالتزامات محددة وعلى الاخص «التزام منع المقاومة»، في حين غضوا النظر عن عدم التزام «إسرائيل» بما هو مطلوب منها وبخاصة وقف الاستيطان.

بعد هذا الاستعراض الموجز للظروف التي جاء فيها طلب رئيس السلطة المقدم لمجلس الأمن للحصول على العضوية الكاملة في الأمم المتحدة، يمكننا وزن خطاب الرئيس الفلسطيني في سياق الإيجابيات وفي سياق تسجيل الملاحظات الانتقادية عليه.

وبخصوص الإيجابيات يمكن الإشارة إلى ما يلي:

اولاً: نجح الخطاب في تقديم سياق تاريخي متصل لأصل الصراع الفلسطيني- الإسرائيلي، وأن أصل هذا الصراع يعود إلى عام 1948 حيث منشأ النكبة الفلسطينية منذ 63 عاماً وليس إلى عام 1967، ونجح في نقل معاناة اللاجئين الفلسطينيين بوصفهم ضحايا النكبة التي وقعت عام 1948.

ثانياً: نجح الخطاب في إقناع أغلبية أعضاء الجمعية العامة للأمم المتحدة بزيف الرواية الإسرائيلية، وأن المسؤول الأول والأخير عن فشل المفاوضات على مدى أكثر من عقدين من الزمن هو الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة، بحكم خرقها الدائم والمستمر للقانون الدولي الإنساني ولقرارات الأمم المتحدة عبر إصرارها على الاستمرار في سياسات الاستيطان وتهويد القدس وبناء جدار الفصل العنصري، ورفض الالتزام بالشرعية الدولية كمرجعية للمفاوضات، وبحكم إصرارها عبر قواتها والمستوطنين على الاستمرار في سياسات القتل والمجازر وتدمير الحقول والحصار والحواجز وهدم المنازل وطرد المواطنين الفلسطينيين في إطار سياسة تطهير عرقي.

ثالثا: أعاد الخطاب الاعتبار نسبياً للخطاب الفلسطيني قبل توقيع اتفاقات أوسلو، ولبرنامج منظمة التحرير المتفق عليه في دورات المجلس الوطني في عقدي السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي، وأسس -على حد تعبير البعض- لقواعد سياسية يمكن أن تشكل نقطة التقاء وقاسم مشترك لمختلف القوى الفلسطينية.

رابعاً: وباعتراف قيادات العدو ومحلليه السياسيين شكل الخطاب حالة تعبئة وتحريض منسقة ضد «إسرائيل» لعزلها، رغم أن الخطاب لم يقل بعزلها ونزع شرعيتها، بل قال بنزع شرعية الاحتلال والاستيطان، وكسب الشرعية لقضية شعب فلسطين.

كما اعترف العديد من المحللين والمسؤولين الإسرائيليين واليهود، وعلى رأسهم توماس فريدمان، أن الفلسطينيين امتلكوا زمام المبادرة بتحركهم في الأمم المتحدة، وأن نتنياهو ومن معه ركنوا إلى ردة الفعل وفقدوا القدرة على الفعل، وباتوا يبيعون المجتمع الدولي نفس السلعة، التي نفدت صلاحيتها منذ زمن.

خامساً: كشف الخطاب عن خطورة الإصرار الإسرائيلي على شرط الاعتراف «بيهودية الدولة»، وأن هذا الشرط يفتح المجال أمام حرب دينية في المنطقة، ويسجل لصالح الخطاب رفضه الحازم لهذا الشرط أيضاً، لما يلحقه من أخطار بحق مليون ونصف المليون فلسطيني يعيشون داخل الخط الأخضر.

سادساً: عندما تحدث الخطاب عن أرض فلسطين كأرض مقدسة وأرض للرسالات السماوية، لم يأت على ذكر اليهود والديانة اليهودية، وذكر فقط الديانتين الإسلامية والمسيحية عبر الإشارة إلى صعود النبي محمد (صلى الله عليه وسلم) ومهد سيدنا المسيح عليه السلام.

سابعا: لم يأت الخطاب هذه المرة على قضية تبادل الأراضي «بذات القيمة والكم»، التي سبق أن رددها الرئيس الفلسطيني والتي هي محل رفض العديد من الفصائل الفلسطينية.

هذا عن الإيجابيات أما عن السلبيات والانتقادات التي وجهها العديد من المحليين للخطاب، فتتمثل فيما يلي:

أولاً: أنه رغم نجاح الخطاب في شرح معاناة اللاجئين الفلسطينيين، ووقوفه بقوة أمام نكبة 1948، إلا انه ربط حل قضيتهم بما ورد في مبادرة السلام العربية التي رفضتها (إسرائيل)، وتنص على «حل عادل ومتفق عليه لقضية اللاجئين الفلسطينيين وفق القرار 194» وهذا الحل يخضع حق العودة للمساومة مع العدو الصهيوني الذي يرفض عودة اللاجئين الفلسطينيين ويراه خطاً احمر، ويفتح المجال أمام حل التوطين وفق ما جاء في وثيقة جنيف، بدلاً من تطبيق القرار 194 الذي ينص على حق العودة والتعويض معاً.

ثانياً: حصر الخطاب حق الشعب الفلسطيني «بالمقاومة الشعبية السلمية فقط» مبيناً أن هذا الحق مكفول في القانون الدولي الإنساني، في حين أن القانون الدولي يكفل حق المقاومة بكافة أشكالها ولم يربطها بشكل معين من أشكال المقاومة.

ثالثاً: أعاد الخطاب التأكيد على ما ورد في رسائل الاعتراف المتبادل بين الرئيس الشهيد الراحل ياسر عرفات واسحاق رابين بشأن «نبذ العنف والإرهاب»، وهو المصطلح الذي أثار احتجاجاً كبيراً في الشارع الفلسطيني، كونه يرى المقاومة إرهاباً، لكنه أدان في ذات الوقت وبشكل خاص إرهاب الدولة والمستوطنين وكلابهم.

رابعاً: أكد استمرار خيار التفاوض لحل الصراع، وهو ما ترفضه العديد من الفصائل وقوى الرأي العام الفلسطيني والعربي، لكن الموضوعية تقتضي أنه في ذات الوقت لم يترك الخيار مفتوحاً، بل جعله مضبوطاً ومشروطاً بشرطين رئيسيين لاستئنافها هما: الوقف الكلي للاستيطان من جهة، ومرجعية حدود 1967، وفق قرارات الشرعية الدولية ذات الصلة من جهة أخرى.

خامساً: ورد في الخطاب عبارة «القدس الشريف» كعاصمة مستقبلية للدولة الفلسطينية، وهذه العبارة ملتبسة لأن العدو الصهيوني وغيره يفسرونها بالبلدة القديمة داخل السور، بينما القدس تشمل البلدة القديمة والمناطق المحيطة بها، خاصة أن العدو الصهيوني أقام عدة أطواق استيطانية حول مدينة القدس وباتت القدس الكبرى في المنظور الصهيوني تشكل 20 في المئة من مساحة الضفة الغربية، ويستوطنها ما يزيد على 250 ألف يهودي.

سادساً: أن الخطاب لم يضع مسألة الدولة الفلسطينية في سياق استراتيجية فلسطينية متكاملة، بل ترك الأمر للدراسة اللاحقة في ضوء ما ستؤول إليه قضية الدولة، في مجلس الأمن وفي الجمعية العامة.

ما يجب الإشارة إليه أن الخطاب في المجمل رغم ما تقدم من ملاحظات سلبية وانتقادات، شكل وثيقة سياسية هامة استحوذت على اهتمام العالم أجمع، ولعل التصفيق المتكرر للخطاب «14 مرة» من قبل معظم الدول الأعضاء يؤكد ذلك، ويؤكد على حجم التأييد الدولي للحقوق الفلسطينية، لكن أهمية هذا الخطاب في بعده الدولي، لا تلغي ضرورة الوقوف بشكل جدي أمام الانتقادات السلبية.

وما يجب الإشارة إليه أيضاً، أن القضية الأهم تكمن في تطبيق ما ورد في الخطاب، أي فيما ستقدم عليه قيادة المنظمة في المرحلة القادمة، إذا ما استخدمت الإدارة الأمريكية حق النقض «الفيتو» أو إذا ما أفشلت تحقيق النصاب المطلوب في مجلس الأمن لطرح موضوع الدولة للنقاش والتصويت، هذا كله من ناحية.

ومن ناحية أخرى، في كيفية تعامل قيادة المنظمة مع المؤامرة الدولية التي تقودها واشنطن، التي باتت تستخدم اللجنة الرباعية كأداة رخيصة لها، خاصة بعد أن تبنت هذه اللجنة طرح أوباما بشأن العودة للمفاوضات الثنائية، بدون قيد أو شرط ورفض ما أسماه بالطرق المختصرة، ممثلة باللجوء للأمم المتحدة!!.

وأخيراً فإنه في ضوء انكشاف بؤس خيار أوسلو التصفوي، وفي ضوء خطاب نتنياهو التوراتية -المدعوم أمريكياً- الذي يرفض الانسحاب من الأراضي المحتلة، ويراها أراضي يهودية، ويرفض وقف الاستيطان ويرفض حق العودة، ويصر على الاعتراف الفلسطيني بيهودية الدولة ويرفض مرجعية الشرعية الدولية، يترتب على القيادة والفصائل الفلسطينية أن تسارع في إنجاز المصالحة الفلسطينية والعمل على انجاز الوحدة الوطنية، في إطار استراتيجية فلسطينية تحلل الجانب الفلسطيني نهائياً من التزامات أوسلو المذلة وبخاصة التنسيق الأمني، وتعمل على إعادة بناء منظمة التحرير الفلسطينية على أسس ديمقراطية، وتغادر خيار المفاوضات، وتعيد الاعتبار للميثاق الفلسطيني بنسخته الأصلية ولثقافة المقاومة ونهجها.

المصدر: جريدة السبيل الأردنية