خطاب تاريخي يتطلّب نقلة وطنية تاريخية
بقلم: ماجد كيالي *
عاد الرئيس محمود عباس إلى رام الله بعد إلقائه خطاب عمره، أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة في نيويورك، وهو الخطاب الذي كتبتُ عنه - في مادة سابقة - بأنه بمثابة صحوة متأخّرة بمقدار 18 عاماً لكنها ضرورية ومهمّة، واعتبره الكاتب (والروائي) رشاد أبو شاور بأنه الخطاب الذي كان ينبغي للزعيم الراحل ياسر عرفات أن يلقيه في حديقة البيت الأبيض في حفلة التوقيع على الاتفاق المذكور (13/9/1993)، فيما اعتبره عبد الباري عطوان (رئيس تحرير «القدس العربي») بأنه انتصار ديبلوماسي فلسطيني، على أن يكون له ما بعده.
لدى عودته حظي الرئيس باحتفاء لم يحظ به من قبل، فهو لم يكن من «الأبوات» الذين تستهويهم «الشعبوية»، ولا من القادة الذين امتطوا موجة المقاومة المسلحة، ولا من الذين اهتموا برفع الشعارات والخطابات العاطفية، لا في حقبة الكفاح المسلح ولا في حقبة «أوسلو»؛ بدليل اختلافه مع قائده ياسر عرفات (2003)، وبدليل برنامجه للانتخابات الرئاسية (2005).
وفي الواقع فإن احتفاء الفلسطينيين بالرئيس في رام الله، وفي غيرها أيضاً، جاء لأن هؤلاء أحسّوا، هذه المرّة، بأن رئيسهم تحدث بلسانهم وسرد روايتهم وبدا أكثر شبهاً بهم، ولأن لغة التحدي حلّت، بعد طول انتظار، محل لغة الاستجداء، ما أشعرهم بأنهم فلسطينيون أكثر من أي وقت مضى؛ وما دفع الشاعر سميح القاسم الى المطالبة برفع شعار: «ارفع رأسك فأنت فلسطيني».
لكن، وفي غمرة هذا الاحتفاء، والذي روّج له بعض إعلاميي السلطة باعتباره بمثابة «بيعة» للرئيس (وهو ما لفت إليه الكاتب مهند عبد الحميد)، مع ما تعنيه هذه الكلمة من انحطاط في السياسة وفي الإجماعات الوطنية وتقليل من شأن قيمة الحرية في برامج حركات التحرر الوطني، فقد غاب عن كثيرين بأن هذا الاحتفاء هو بمثابة «بيعة» لمحمود عباس «الجديد»، و «نفي» لمحمود عباس «القديم»، أي إنها كانت بمثابة تصويت على القطع مع نهج «أوسلو» الذي كان هو مهندسه.
المعنى من ذلك أن الفلسطينيين إنما احتفوا صراحة بتأييدهم للخيار السياسي الجديد الذي أطلقه الرئيس ذاته، والمتمثل بنبذ عملية المفاوضات، ما لم تتضمّن مرجعية القرارات الدولية وتحديد جدول زمني ملزم، ووقفاً للاستيطان، وانسحاباً إسرائيلياً كاملاً من الأراضي المحتلة (1967) وإقامة دولة مستقلة فيها. ولا شكّ أيضاً في أن هؤلاء الفلسطينيين الذين عانوا الأمرّين من تداعيات الانقسام الحاصل عبّروا في ذلك أيضاً عن دعمهم للنداءات التي أطلقها رئيسهم في شأن استعادة وحدة نظامهم السياسي، وتفعيل منظمة التحرير، أو إعادة بنائها.
في المقابل ثمة فلسطينيون آخرون، أيضاً، لم يحتفوا بالخطاب تماماً، بالنظر للتجارب السابقة، وبالنظر لعدم ثقتهم بالبنية السياسية المترهّلة وارتهانها لمسار المفاوضات، وثمة آخرون عارضوه على طول الخطّ، وشكّكوا بمقاصده.
على ذلك فإن اختزال المشهد بمظهر احتفائي، أو حتى بمظهر معارض، وطمس المظاهر أو الأصوات الأخرى، لا يجدي ولا يفيد، بقدر ما يعبّر عن ضعف في إدراك أهمية التنوّع والتعدّدية واحترام الرأي الآخر في الحركة الوطنية الفلسطينية، فضلاً عن أنه ينمّ عن خفّة مضرّة في التعاطي مع تعقيدات قضية الفلسطينيين.
أيضاً، وفي هذا السياق، يجدر الانتباه إلى أن اللاجئين الفلسطينيين في الأردن ولبنان وسورية لم يحتفوا إلى هذه الدرجة بالخطاب المذكور، وهذا مؤشّر له دلالاته الخطيرة، لأن ذلك ليس له علاقة بالخلافات السياسية، أو النزاعات الفصائلية، بقدر ما له علاقة بقلق اللاجئين على أحوالهم، وعلى تراجع قضيتهم، المتمثلة بحقّ العودة في الأجندة الوطنية لمصلحة الحق في إقامة الدولة في الضفة والقطاع؛ وهو ما يجري التعبير عنه بضياع المنظمة لمصلحة السلطة.
هكذا، ثمة ما هو أهم من الاحتفاء بالخطاب، ثمة ضرورة للتمعّن في الاستحقاقات والتحديات والمتطلّبات التي ستنجم عنه وعن القطع مع عملية أوسلو، فقد اعتاد الفلسطينيون على المكابرة والإنكار لواقع التدهور في أحوالهم؛ ولنتذكّر عبارات من مثل: «كنت الصمود في بيروت»، والتوهّمات في شأن تحويل الضفة وغزة إلى «نمر» آسيوي جديد، من طراز كوريا أو سنغافورة أو تايوان!
ما العمل؟ من كل ما تقدم، ثمة تحديات أساسية تواجه الفلسطينيين بقواهم وكياناتهم السياسية الفاعلة والحيوية، في محاولتهم لتجديد مشروعهم الوطني، ضمنها إعادة ترتيب البيت الفلسطيني، فمن غير المعقول تغيير المسار، ومواجهة المستجدات، ببنى قديمة، مترهلة ومستهلكة؛ هذا إذا كانت القيادة الفلسطينية مستعدة حقاً للذهاب في المسار الذي أطلقه الرئيس في خطابه إلى نهايته.
أوّل هذه التحديات يتمثّل بإعادة بناء الكيانات السياسية (المنظمة والسلطة والفصائل والمنظمات والاتحادات الشعبية)، ما يعني نبذ احتكار القرارات، وتكريس العلاقات الديموقراطية في الحياة الداخلية، واحترام التعددية والتنوّع والرأي الآخر، وحلّ القضايا الخلافية بأسلوب الانتخابات والاستفتاءات، والقطع مع النظام السياسي المبني على المحاصصة الفصائلية («الكوتا»)، وبناء إطارات منظمة التحرير على قاعدة تمثيلية، بواسطة الانتخابات (النسبية) حيثما أمكن ذلك؛ وما يصحّ على المنظمة يصحّ على كيانات السلطة والفصائل والاتحادات.
ثاني هذه التحديات يتمثّل بصوغ رؤية سياسية جديدة للعمل الوطني، تتأسّس على الاستنتاجات من التجربة السابقة، وتحاول الإجابة على الأسئلة الجديدة، وتجسر الفجوة بين الممكن والمطلوب، وبين الإمكانات والطموحات، وبين الواقعي والمستقبلي، وبين الحقيقة والعدالة (بحسب تعبير لإدوارد سعيد). رؤية سياسية تعزّز من وعي الفلسطينيين في أماكن وجودهم بكونهم شعباً واحداً، على تباينات أوضاعهم وأولوياتهم (وضمنهم هذا الجزء الغالي من فلسطينيي 1948)، من دون أن تثير عندهم القلق من إمكان تضييع حق مقابل حق. رؤية سياسية مستقبلية تعيد الاعتبار للتطابق بين أرض فلسطين وشعب فلسطين والمشروع الوطني خاصّته؛ وتأخذ في اعتبارها تعقيدات وإشكاليات هذا الموضوع.
هكذا نصل إلى التحدّي الثالث وهو يتعلق بإعادة الاعتبار لمفهوم وحدة الشعب، بعد كل ما جرى. فليس من الحصافة تجاهل واقع الشروخ بين مختلف تجمعات الفلسطينيين، وهو ما يتبدّى في تنامي حال الاختلاف في مشاعرهم وتعبيراتهم، وفي تباين علاقاتهم مع كياناتهم السياسية، وفي تعارض أولوياتهم الوطنية.
علمتنا التجارب أن ثمة ظواهر ومفاهيم طارئة يمكن أن تتحول إلى وقائع وثوابت، وهو ما يخشى منه في الحالة الفلسطينية، نتيجة الاختلافات السياسية، وتهميش أو تغييب منظمة التحرير باعتبارها الكيان الجامع للفلسطينيين في كافة أماكن وجودهم لمصلحة كيان السلطة، ونتيجة الانقسام الحاصل بين الضفة وغزة وبين حركتي فتح وحماس، وبين الداخل والخارج، وبين اللاجئين والمواطنين، وفلسطينيي 1948 وباقي الفلسطينيين. هكذا فإن تعزيز شعور الفلسطينيين بكونهم شعباً واحداً، في الحاضر والمستقبل، يتطلب بناء الأطر والمؤسسات والكيانات السياسية على هذا الأساس كما يتطلب صوغ رؤية سياسية وطنية تلبّي ذلك.
ويبقى أن ثمة مهمات أخرى ينبغي الاشتغال عليها وتتعلق برفع الحصار الجائر عن قطاع غزة، واستعادة الوحدة للكيان السياسي الفلسطيني، وتحشيد الجهود للإفراج عن أسرى الحرية في سجون الاحتلال، والقطع مع العملية التفاوضية المذلة والمجحفة والعبثية، وإنهاء التنسيق الأمني وعلاقات التبعية الاقتصادية، ووضع الملف الفلسطيني في عهدة المسؤولية الدولية، وفتح المجال أمام الشعب للتعبير عن مقاومته ورفضه للاحتلال ولنظام الفصل العنصري في إسرائيل.
هذه هي التحديات الاستراتيجية التي تواجه القيادات وكل الوطنيين الفلسطينيين، والتي من دون تأهيل البني اللازمة لها، والاشتغال على تلبية متطلباتها، لا يمكن القول إن ثمة طريقاً جديداً، أو تغييراً ما، في الساحة الفلسطينية.
* كاتب فلسطيني
المصدر: صحيفة الحياة - لندن