دبلوماسية الرضوخ الفلسطينية في زيوريخ
بقلم: حسام شاكر
لم تكن مواجهة كروية، بل معركة نموذجية على المستوى
الدولي، ويمكن اعتبارها فرصة لقياس حدود الاستقلال الفلسطيني في زمن الاعترافات المتوالية
بدولة لم تنهض بعد.
على أن ما جرى في زيوريخ يوم الجمعة الـ29 من
مايو/أيار الجاري جدير بالفحص والتحليل واستخلاص العبر منه للحاضر الفلسطيني ومستقبله،
فما وقع قد خط بالفعل حدود التحرك المستقبلي للدبلوماسية الفلسطينية ورسم التوقعات
من سلوكها المقبل في الهيئات والمحاكم الدولية في هذه المرحلة على الأقل.
في منشأ القصة أن حملات الضغط لعزل فرق الاحتلال
من ملاعب العالم قد تعاظمت في الآونة الأخيرة مع تنامي العمل الجماهيري والمدني المؤيد
لحقوق الشعب الفلسطيني، ومن الإنصاف القول إن الرسمية الفلسطينية لم تكترث بهذا التوجه
أساسا إلى أن أعلن اتحاد كرة القدم الفلسطيني ممثلا برئيسه اللواء جبريل الرجوب عزمه
تقديم طلب التصويت على تعليق عضوية الاتحاد الإسرائيلي في الجمعية العمومية للاتحاد
الدولي لكرة القدم.
والواقع أن اللواء الرجوب إنما جاء إلى منصبه
هذا بعد مسيرة حافلة في قيادة أجهزة أمن السلطة التي تدير تنسيقا أمنيا عميقا مع أجهزة
الاحتلال الإسرائيلي، وهو ما أثار تساؤلات عن جدية هذا التحرك لمواجهة الاحتلال في
دبلوماسية الرياضة.
ليس سرا أن الشكوك قد ساورت الناشطين في حملات
الضغط الأوروبية والعالمية من مفعول هذا التحرك مع خبراتهم المؤلمة مع الرسمية الفلسطينية
بشأن مطالب عزل الاحتلال، ثم اتضح للجميع مع حلول يوم الجمعة الأخير من مايو/أيار أن
السلطة قررت ركوب القطار متأخرة ثم حرفته عن مساره.
ويمكن تلخيص ما جرى بأن الرسمية الفلسطينية أقحمت
نفسها في الضغوط الشعبية والجماهيرية والتضامنية التي سعت لعزل الاحتلال من الملاعب،
ثم أبطلت مفعولها بضربة واحدة، قاطعة الطريق على جهود جماهيرية وحملات مدنية وإعلامية
تراكمت عبر السنوات الأخيرة.
وبدلا من الاستجابة لضغوط الجماهير والحملات المطالبة
بعزل الاحتلال من ملاعب العالم عطلت الرسمية الفلسطينية التحرك وخرجت إلى العالم بمشاهد
المصافحة الحميمة مع رئيس اتحاد الكرة الإسرائيلي محتمية بخطاب تبريري خجول.
كان لهذا الحدث مفعول الصدمة في أوساط الحملات
الضاغطة ضد الاحتلال حول العالم حتى وصف بعضهم الخطوة بأنها صفعة للجهود المدنية لعزل
الاحتلال وإعاقة لمسيرة الاستقلال الفلسطيني، ومفعولها العملي هو منح نظام الاحتلال
ومؤسساته حصانة من العقاب.
إن ما جرى في زيوريخ ألقى طوق نجاة للجانب الإسرائيلي
في مأزقه، فقد يصطبر نظام الاحتلال الإسرائيلي على حجبه عن رواق دولي موصد على ذاته
ولكنه لن يحتمل بكل تأكيد استبعاده من الملاعب المفتوحة للعالم بأسره، فلم تعد الملاعب
مجرد كرة تتقاذفها الأقدام، بل هي حلبة الشعوب ومضمار المنافسات ووجهة الإعلام والدعاية
ورواق الدبلوماسية الشعبية ومختبر الظواهر المتحركة أيضاً.
كانت فلسطين حتى ظهيرة يوم الجمعة الأخير من مايو/أيار
قاب قوسين أو أدنى من تسجيل سابقة تاريخية في محاصرة الاحتلال على المستوى الدولي،
فهي لحظة تاريخية فتحت الباب لإمكانية استصدار قرار تاريخي بعزل الاحتلال، أو وضعه
في خانة المساءلة.
ولا تنحصر الخشية الإسرائيلية في استصدار قرار
بالعزل، بل ما يثير الهلع ابتداء هو وضع نظام الاحتلال في خانة الشك والمساءلة، ومباشرة
التصويت على بقائه من عدمه في الفضاء الدولي، وذلك بعد عقود سبعة من نشأته على أنقاض
فلسطين، وبمفعول العقدة الوجودية التي تعيشها دولة الاحتلال بدا مفهوما تماما أن تأخذ
الحكومة الإسرائيلية مطالب طرد اتحاد الكرة الإسرائيلي من الاتحاد الدولي (فيفا) وحتى
من الاتحاد الأوروبي (ويفا) بأقصى درجات الجدية والاستعداد، وأن تجهز حملاتها السياسية
والدبلوماسية والإعلامية الضارية عبر العالم، وأن تحرك وفودها وأذرعها لتخوض المعارك
الاستباقية في اتجاهات عدة.
ليست واقعة زيوريخ سابقة بحد ذاتها، بل هي تعبير
أمين عن نهج اتضحت معالمه مرارا في محطات مفصلية بما يعين على تقدير مآلاته، ففي صيف
2007 مثلا تسببت الدبلوماسية الفلسطينية والضغوط الإسرائيلية في تعطيل غير ملحوظ لتحرك
قطري في مجلس الأمن كان من شأنه إنهاء الحصار المشدد المفروض على قطاع غزة عبر اعتباره
"منطقة منكوبة إنسانيا".
ثم أحدثت الدبلوماسية ذاتها صدمة واسعة في خريف
2009 بتفويت فرصة تاريخية في مجلس حقوق الإنسان لمحاسبة الاحتلال بموجب ما جاء في تقرير
غولدستون بخصوص جرائم الحرب الإسرائيلية على غزة، مما أشعل غضبا فلسطينيا عارما وقتها
على قيادة السلطة الفلسطينية التي لم تصارح شعبها بالحقائق، لكن "دبلوماسية سحب
الملفات" لم تتوقف، بل تكرست نهجا أطل مجددا على العالم في زيوريخ بالإعلان عن
سحب طلب تعليق عضوية اتحاد الكرة الإسرائيلي من الاتحاد الدولي لكرة القدم.
وظف الإسرائيليون أوراق قوتهم وحشدوا قواهم، بينما
لم تلتفت الدبلوماسية الفلسطينية لوقوف معظم دول العالم مع فلسطين، علاوة على ضمائر
الشعوب والتفاعلات الجماهيرية والمدنية المتعاظمة عبر القارات، فضلا عن صمود الشعب
الفلسطيني قبل ذلك وبعده، بل اكترثت بضغوط واتصالات قال اللواء الرجوب إنه تلقاها لسحب
الطلب.
ما استخلصته الحملات المتصاعدة ضد الاحتلال مما
جرى هو غياب الإرادة السياسية لدى الرسمية الفلسطينية لعزل الاحتلال ومحاصرته، وأن
من يرفعون لافتات الاستقلال تحت الاحتلال لا يملكون قرارهم على الأرجح بل يمكن إخضاعهم
ببعض الاتصالات الضاغطة، وأنه من المبالغة التعويل على تمثيل هذا النهج لفلسطين في
المنظمات الدولية طالما لا تتوفر الإرادة السياسية للمواجهة ولا الشروط الذاتية ولا
الموضوعية لاحتمال كلفة الضغوط.
إنه على أي حال درس بالغ الجدوى في إدراك مواقف
الأطراف ضمن تفاعلات القضية الفلسطينية في لحظتها التاريخية الراهنة، لكنه ليس أول
الدروس المؤلمة ولن يكون آخرها على الأرجح، وقد كانت منها أوصاف السخرية التي كالها
السيد محمود عباس لزوارق المخاطرين بأرواحهم من أمم العالم لكسر حصار غزة حتى وصفها
في أواخر 2008 بأنها "محاولات سخيفة".
ولم يعد ناشطو حركة المقاطعة ونزع الاستثمارات
وفرض العقوبات يكتمون شكواهم هم أيضاً من سلبية الموقف الرسمي الفلسطيني إزاء هذه الموجة
المتعاظمة من محاصرة الاحتلال، وتبقى للاجئين الفلسطينيين الذين يرفعون المفاتيح في
شتاتهم العريض حول العالم آلامهم التي يتجرعونها بتصريحات التنصل المتوالية من حق العودة
و"التخلي عن صفد" مسقط رأس السيد عباس.
والواقع أن شعارات "المقاومة الشعبية"
التي احتمى بها خطاب السلطة الفلسطينية بديلا عن "الكفاح المسلح ضد الاحتلال"
آخذة هي الأخرى بالتهاوي، علاوة على أنها تتحول إلى مقولات جوفاء إن تم تمزيق أوراقها
الرابحة على المستوى الدولي، فماذا يتبقى لفلسطين إن صادرت التحرك باسمها دبلوماسية
غير مستقلة ترضخ للتسويات والضغوط وتتجرد من أوراق قوتها المتمثلة بحشد الأمم مع الحق
والعدالة؟!
أما الشعب الفلسطيني فسيتخلص بوعيه الجمعي دروسا
قاسية عن نمط قيادته الرسمية التي تتحدث عن عزمها مواجهة الاحتلال في الأروقة الدولية،
بينما تعجز حتى عن رفع صوتها لعزله في ملاعب العالم.
وللشارع الفلسطيني تساؤلاته الشائكة في اللحظة
الراهنة عن مفعول نظام الامتيازات الإسرائيلي الممنوح لبعض الشخصيات الفلسطينية دون
أخرى، بما يتيح لها التحرك عبر المعابر والحواجز ويجعلها في مأمن من الاعتقال والأسر
إلى جانب صفوة الشعب الفلسطيني القيادية القابعة خلف القضبان.
فهل يمكن مثلا رفع بطاقة حمراء في وجه الاحتلال
قبل التخلي عن بطاقة التسهيلات التي يمنحها الاحتلال لفئة "الشخصيات الأكثر أهمية"؟
وإذا كان الأوروبيون يسددون للسلطة رواتبها فمن يحتمل إغضاب اتحادهم الكروي الذي يضم
الاتحاد الإسرائيلي في عضويته؟ وفيرة هي التساؤلات التي تسعى لتحري واقع القيادة الفلسطينية
الرسمية وقدراتها الفعلية على التحرك بمشروع دولة تحت الاحتلال.
ليس مبالغة الزعم أن ما جرى في زيوريخ ليس سحبا
لطلب فلسطيني، بل هو تعبير متجدد عن نهج تفريغ شعارات الاستقلال المرفوعة من محتواها،
إن قرار سحب الطلب يعني تحويل الموقف من مأزق للاحتلال إلى أزمة للجانب الفلسطيني بضربة
كروية واحدة، وغاية القول إن فلسطين بحاجة في هذا المنعطف إلى دبلوماسية تحرر لا إلى
دبلوماسية رضوخ.
ثمة رسالة لا تخطئها العين، فالجماهير تواصل ضغوطها
لطرد الاحتلال من ملاعب العالم حتى بعد خذلانها في زيوريخ، وقد تواصلت حملات المطالبة
بطرد منتخب الاحتلال وفرقه من ملاعب العالم فحصدت آلاف التوقيعات على عرائضها في الساعات
الأولى التي أعقبت إعلان اللواء الرجوب، وفي هذا رسالة بليغة من الشعوب والجماهير بأن
حملات الضغط لعزل الاحتلال في الرياضة الأممية لم تنطلق بقرار رسمي ولن تتوقف بقرار
من أحد.
المصدر: الجزيرة نت