رائحة شواء اللحم تصلنا!
بقلم: وائل عبد الفتاح
شركة طيران «إير سيناء» لم توقف
رحلاتها الى تل ابيب... بهذا الخبر بدأ يومنا على الـ«فايسبوك». نقله خالد فهمي
علي صفحته مع رابط لما قالته صحيفة «هآرتس» الاسرائيلية... بالرغم من إلغاء كثير
من الشركات الأميركية والأوربية رحلاتها إلى مطار بن غوريون. ونقلت هآرتس عن موقع
«كالكاليس - ت« أن قرار عدم تعليق الرحلات غالبا اتخذ من أعلى المستويات السياسية
في مصر. وأضافت أن القرار يُعتبر «رسالة قوية لحماس التي ينظر إليها الرئيس المصري
عبد الفتاح السيسي باحتقار». وأنهت «هآرتس» خبرها بالقول إن شركة الخطوط الملكية
الأردنية كانت قد علّقت رحلاتها يوم الأربعاء لأسباب أمنية.
خالد فهمي استاد التاريخ في الجامعة
الاميركية. ليس مجرد صديق «فايسبوكي» جمعتنا لقاءات ومساندات بعد اعجابي بكتابه
«كل رجال الباشا» عن اعادة بناء رواية عصر محمد علي من زاوية المجندين. هذه الزاوية
الخارجة عن كتب المحفوظات الرسمية كانت لقاء امتد في قضايا اخرى عن التعذيب وزوايا
اخرى للصراع، لا يتضاد فيها العقل مع العاطفة او يلغي احدهما الآخر.
كتب خالد على صفحته ملاحظات مهمة عن
تأثير انتقال ملف فلسطين من «الديبلوماسية» الى «الامن»... وهو ما نتج عنه «غياب
أي حديث عن القانون الدولي عند التعرض لما يحدث في غزة». هذا الغياب التام للقانون
الدولي في الخطاب الرسمي المصري، الديبلوماسي والإعلامي، ليس وليد اللحظة، بل يعود
إلى العام 2005 عند «انسحاب» إسرائيل المزعوم من قطاع غزة. فالخارجية المصرية، ذات
الباع الطويلة في القانون الدولي والنشطة في المحافل الدولية، تخلت عن الارتكان
على القانون الدولي عند التعامل مع غزة. وللأسف انتُزع منها ملف فلسطين برمته
وأصبحت، منذ سنوات طويلة، تتحكم فيه أجهزة الأمن المختلفة، بعدما كان، ومنذ إنشاء
الوزارة في الثلاثينيات من القرن الماضي، من أهم الملفات التي اضطلعت بها».
مصر تتعامل مع مشكلة القطاع وحماس
وحوالي مليون ونصف مليون فسلطيني الآن من منظور أمني صرف، وكأنه لا يوجد احتلال
ولا أهمية للقانون الدولي. فاتفاقية الهدنة التي اقترحتها مصر منذ أيام لا تشير من
قريب أو من بعيد إلى القانون الدولي، ولا تذكر الاحتلال ولا تتطرق إلى المشاكل
الناجمة منه، ويغيب عنها أي إدراك للأصول التاريخية للمشاكل المعقدة التي يعاني
منها قطاع غزة».
وللتذكير، ولمن سيقول «قانون دولي
إيه يا عم اللي جاي تقول عليه؟ انت ناسي حماس؟ دول شوية إرهابيين ما يعرفوش غير
لغة الدم»، هؤلاء أذكرهم بنجاح إسرائيل على مدار سنوات طويلة في الاحتماء بالقانون
الدولي لإسباغ الشرعية على أعمالها العسكرية. وكمثال بسيط من أمثلة عديدة يمكن
ذكرها، فلنتذكر أحداث هزيمة 1967. فقد نحجت إسرائيل نجاحا ساحقا في ادعائها أنه
عندما أغلقت مصر مضيق تيران للملاحة الإسرائيلية يوم 23 أيار 16967 فإنها بذلك قد
أعلنت الحرب على إسرائيل (casus belli) وأن
إسرائيل، بدورها، كان من حقها أن تدافع عن نفسها ضد هذا الاعتداء. وزعمت، بالتالي،
أنه عندما قُصفت مطاراتنا في صبيحة الخامس من حزيران، لم يكن ذلك سوى دفاعا عن
النفس، وبالتالي فهي غير ملتزمة بتعويض مصر أو برد أراض لها. هذه الحجج واجهتها
الخارجية المصرية، بعد الهزيمة، بقوة وعناد وفنّدها ديبلوماسيونا في الأمم المتحدة
بذكاء وحنكة.
صحيح أن موازين القوى، في المقام
الأخير، هي ما يحسم الأمور، ولكن يخطئ من يظن أن مبادئ القانون الدولي لا تندرج
ضمن هذه الموازين. ويخطئ من يظن أن إسرائيل لا تكترث بالقانون الدولي أو بصورتها
أمام العالم. ويخطئ من يحصر الاهتمام بمشكلة غزة في النواحي الأمنية فقط، ليس لأن
مبادئ العدالة وحقائق التاريخ ومواد القانون أهم من الجوانب الأمنية، بل لأن
الأخلاق والتاريخ والقانون عناصر مهمة من عناصر الأمن القومي.
لا شك أن مشكلة غزة تهدد الأمن
القومي المصري، ولا أحد يطالب الأجهزة الأمنية بعدم التعامل مع هذا التهديد بحسم
وقوة. ولكن مشاكل غزة لا تكمن فقط في أن حماس على صلة بجماعة «الإخوان المسلمين».
كما لا تقتصر مشاكل غزة في أنها مرتع للتدخل القطري أو التركي، وقبلهما إيران
وسوريا.
ومع عدم التقليل من هذه العوامل فإن
مشكلة غزة الحقيقية تكمن في الاحتلال الإسرائيلي وفي نفي إسرائيل المتكرر لحقيقة
هذا الاحتلال وتنصلها من المسؤوليات القانونية والسياسية المترتبة عليها كسلطة
احتلال.
إن غياب أي دور فعال للخارجية
المصرية، بحنكتها وخبرتها، في التعامل مع مشكلة غزة هو ما يؤجج هذه المشكلة
ويعمقها. وبدون إدراك حقيقة وجود قرابة مليون ونصف مليون إنسان في سجن مفتوح على
حدودنا، ومن دون التأكيد على أن إسرائيل بممارساتها المتكررة كسلطة احتلال تنتهك
القانون الدولي، ستتفاقم مأساة الفلسطينيين الرازخين تحت الاحتلال وسيظل الأمن
القومي المصري مهددا.
انتهت ملاحظات خالد... التي تقودنا
عقليا في الصباح الذي تتسارع فيه حرب اللطميات وتتلاهث من حولنا تحاول لعق الدم
المتخثر حولنا وتحويله الى معلبات بمواد حافظة قديمة...
كيف لا تقع في بحيرات الدم المحفوظ،
كيف تتابع الحرب وسط حمى هستيرية تطل من التلفزيونات وتنشر صور خالد مشعل يلعب تنس
الطاولة وتحوله الى ابليس المطلوب رجمه، بينما تسرب قنوات تابعة لاجهزة (مخابرات
وخلافه) اخباراً عن دعوة مشعل لزيارة القاهرة وهو ما كذبته الخارجيه التي لم تكن
تعلم بدعوة المخابرات له... المذيع لم يعرف كل ذلك فهو قادم من عالم رسائل
المستمعات على الاذاعة... ولم تمر الروايات المحفوظة على عقله. ويردد ما يصل
اليه... لكن محمد مجدلاوي صديقي اليساري على «فايسبوك» الذي التقيته مرة واحدة في
القاهرة واستمتعت فيها بنظرة خارج ارفف العلب المحفوظة سواء في متاجر بيع اسطورة
حماس او متاجر شيطنتها او تحويلها الى غول يلتهم كل شيء... رسائل مجدلاوي ناصرتنا
بروايات لا تستسلم ايضا لغواية الاصطفاف الكبير... فحكى عن «تعمد اسرائيل قصف
المدنيين والاماكن التي تحمل هذه الصفة، الناس في غزة تعي ذلك جيدا، يعلمون ان
لحمهم الآن هو المطلوب الاول للطائرات، يعلمون ان هذا اللحم وسيلة اسرائيل
لابتزازهم من اجل اخضاعهم. لا قيمة لضرب الاهداف العسكرية في غزة، الموت هو الخيار
الذي كان اتخذه حملة البنادق منذ البداية فلن يزيد قتل من يبحث عن الموت موتا.
الناس في غزة تحاول ان تحمي نفسها،
وهي من اجل ذلك تهرب من براءتها وتجتنب شبهة «المدنية»، تهرب من المستشفيات من
المدارس من منازلها من اعلام الصليب الاحمر والأمم المتحدة والاطفال. لسان حالها
يكاد ان ينطق كذبا و يقول: لسنا ابرياء و لسنا مدنيين.
مجدلاوي يعي انه يكتب خارج صناديق
الاخبار او الروايات المحلية عبر الميديا فكتب: اخبار لن تسمعوها في الميديا...
«نسبة الاستهداف التي تعرض لها عناصر
و كوادر الجبهة الشعبية في هذه الحرب كانت عالية جدا، سواء بقصف منازلهم او
باغتيالهم المباشر، بعضهم نجا وبعضهم استشهد، واخرهم قبل ساعة من الان عندما قصفت
طائرة استطلاع سيارة احد ابرز القيادات العسكرية للجبهة وبصحبته عدد من رفاقنا
المقاتلين.
المجد لآخر من يرفعون البنادق
الحمراء».
ليس مهما ان تكون مع مجدلاوي او ضده
لكنه يمنحنا يوميا جرعة تواصل لمجموعات ليست قليلة او لاجيال لديها فرصة لبناء
وعيها بعيدا عن المتاجر القديمة او ابتذال الكليشيهات... وهو ما اوضح لي جانبا
مهما على الارض عندما كتبت الهام عيداروس السياسية صديقتي السياسية الشابة التي
نقلت وعيها من الانتماء الى مجموعات يسار جديد على هامش التنظيمات والتركيبات
القديمة الى مستوى التنظيم اولا في حزب التحالف الاشتراكي والآن في تأسيس حزب
العيش والحرية...الهام كتبت ردا على حملات السخرية من «من فكرة القافلة الدوائية
الشعبية لفلسطين على اعتبار انها قصر ديل عشان مش قادرين تعملوا مظاهرات وانها مش
حاجة سياسية وانما خيرية. قافلة مساعدات طبية شعبية مش بس عمل خير ممكن يفيد
الفلسطينيين في غزة المحاصرة تحت الضرب بل هي فرصة لقيام الكوادر السياسية باعادة
الحوار في الشارع المصري حول القضية الفلسطينية كقضية تحرر شعب من اسوأ كيان عنصري
استيطاني ومكافحة التشوهات الفكرية اللي زرعها السادات ومبارك في ادمغة اجيال من
المصريين حيال اهلنا في فلسطين والتشويه الاخواني للقضية الفلسطينية في اعين
الكثيرين»... تمنح هذه الكلمات للواقعية بعداً اعمق من تسطيحها كواقعية منحطة، او
التعلق بها كمكسبات طعم ورائحة لمواقف عفنة... وهذه اللحظة التي تكنس الدكاكين
كلها يبدو غبارها ثقيلاً ولزجاً احيانا... لكنه يفتح امامنا كوة في اكل ذلك
الفولاذ اللزج... للتفكير والتأمل... والنظر بعيدا عن ادمان المواد الحافظة لعلب
مستهلكة.
المصدر: السفير