رسائل صبابة وحنظلة.. كل شي للبيع الا الكرامة *
بقلم: نضال عبد العال
تلك الأيام القليلة نسبيا لم تكن عادية في حياة المخيم وأهله، فما زالت تمر
في البال، مشاهد رعب لأحداث النكبة الأخيرة الذي اصطلح على تسميتها بـ «نكبة
البارد» (20/ 5/ 2007) لفظاعة ما جرى، وتشبيها بالنكبة الفلسطينية الكبرى 1948».
يومها، خُطف المخيم من أهله ومن رمزيته كوطن مؤقت يعيش مخاض الولادة وبحالة انتظار
على موعد مع وطن مرتجى تهفو اليه القلوب.
يومها حارت الأسئلة في البحث عن أجوبتها من دون جدوى. ماذا جرى؟ ولمَ جرى
ما جرى؟ لم مخيم البارد؟ من خطط ومن نفذ؟ من ساعد وامد ودعم؟ ما الغاية والهدف؟ كل
ذلك ظل راسخا في بال الجميع، مما لا يمكن ان يسمح لأي كان باعادة الكرّة مرة اخرى.
ما حضر في الذهن على عجل لم يكن عفويا، حتى وإن بدا كذلك للوهلة الأولى،
لكنه بالحقيقة كان حصيلة طبيعية لتجربة مريرة ايقظت فينا كفلسطينيين حاسة خاصة
فينا، هي «الحاسة الهاربة»، بان ما جرى مؤخرا لن يتكرر ولن يلدغ اهل المخيم من
الجحر مرتين.
كان الشباب المنتفض يلعن كل شيء .. نعم كل شيء، وهم في الحقيقة يلعنون
عجزنا والمهانة التي صارت عادية للكثيرين منا، وكانوا الأكثر أصالة، فهم يستعيدون
باللاوعي، عنفوان أسلافهم يوم كان لمخيم نهر البارد فضل الشرارة الأولى لما نعرفه
بالثورة الفلسطينية المعاصرة وتجربتها الطويلة في لبنان.
الشباب يحتلون الشارع، بل هم يحتلون الأفق بما يتسع من كرامة وعنفوان،
وغضب!
و لم يكن وحده الدم الحار الذي انساب ببراءة أحمد القاسم هو من صب الزيت
على النار التي تشتعل في صدورهم، وتشعل استطراداً الإطارات على كل مداخل المخيم.
بل السنوات الخمس المملوءة بالالم والمعاناة والانتظار على امل ان يتحقق وعد قطع
بان يعود المخيم كما كان، كرامة وعزة واملا قبل ان يعاد حجرا، ومكانا يليق بمحطة
انتظار لشعب مقاوم على موعد مع العودة لابد انه آت.
كل ذلك كان كفيلا ان يجعل من تلك الحادثة مناسبة لتفجير ثورة عارمة كادت ان
تأخذ الجميع الى حيث لا يريد احد منهم، ولكن القلوب البيضاء لا تضمر شرا ولا تخلو
من الحكمة والاتزان، وإن بدت في الساعات الأولى صاخبة وغاضبة ومشحونة بالسباب
والشتائم.
وكما احتل الشباب الميدان بحرارة دمهم وجرأة قرارهم، استعادوا بالحكمة
المخيم كما كان فضاء حرا نشم فيه ولو خلسة رائحة وطن.
ولانه كذلك لن يكون ساحة لصراعات أحد مع احد، وبالإمكان أن تحدد الاهداف
بدقة ووضوح، وهو السبيل الوحيد الذي يجنبنا سوء الفهم ويمنع العابثين -وهم كثر
-الاصطياد بالماء العكر. وهذا ايضا تعبير ساطع عن ذروة الاتزان والتوازن في زمن ان
لم تتقن فيه فن المشي بين النقاط، فإنك قد تضيع وتضيّع من حولك بغمضة عين.
هو زمن الفتنة والاستقطاب الحاد والقسمة بين فسطاطين: معنا او ضدنا،
والخيار بين اثنين :الأبيض أو الأسود، والاكثر كرها لبقية الألوان.
ليس مطلب الكرامة عداء لأحد حتى لو كان شقيقا، وعليه أن يكون حريصا ومتفهما
لجرح طال وهو ينزف، والآخ الخارجة من الصدور بعد خمس سنوات، عذابا ومرارة، من
الطبيعي ان تخرج من الصدور بصوت مرتفع.
ولكن الاصبع الذي ضغط على الزناد، وأهدر دم فؤاد محي الدين وخالد يوسف، زاد
النار اشتعالا، حتى كادت أن تحرق الأخضر واليابس، بينما عمائم إبليس تحشد لليوم
الموعود ليصير المخيم الخارج من ركام فتواهم السوداء، همزة وصل تربط بين نار
طرابلس الفيحاء المشتعلة مذهبيا، وبابا عمرو التي تغرق دما في مشروع امارة .
وفي غمرة الصخب والفوضى وتحت تلك الغمامة السوداء التي تقبع ثقيلة ثقيلة في
سماء المخيم، لم تكن القلوب الشابة والفتية التي تنبض بالعنفوان، تعاني من نقصان
الحكمة، ولن يكون المخيم الا همزة وصل بين ذاكرة الأجداد المرصوفة كالبنيان
المرصوص حلما واملا وكرامة، وفلسطين، وطنا سيسكن خلجات صدورنا، فقط لا غير ..
وسيبقى المخيم عنوانا وطنيا عصيا على الفتنة، وكل ما دبر في ليل، تبخر حين خط احد
الفتية على عجل عبارة لخصت ما يدور في رؤوسنا جميعا: كل شي للبيع الا الكرامة...!
ويبقى السؤال الماثل في الأذهان. هل يمكن أن نحفظ الدرس الذي لقنّا إياه
هؤلاء الشباب؟ كيف مشوا بين حبات المطر؟ ....
كونوا فلسطينيين، قولوا ما شئتم حتى لو كان شتما، وبالنهاية تصرفوا باتزان،
وخذوا حقكم ولا شيء سواه.
فلنحفظ المخيم وكرامة اهله ليبقى رمزا لقضية هي أكبر من كل المذاهب
والمشاريع، قضية توحد وتتسع للجميع وهي بحاجة لنضال الجميع. فلسطين القضية
والقدسية أكبر من أن يحتويها عنوان، هي كل الأسماء والعناوين.
* بمناسبة مرور عام على الحراك الشبابي في مخيم نهر البارد
المصدر: الأخبار