القائمة

مواقع التواصل الأجتماعي
الأحد 24 تشرين الثاني 2024

رسالة حبّ إلى قرية شَعَبْ الجليلية المحتلّة

رسالة حبّ إلى قرية شَعَبْ الجليلية المحتلّة

بقلم: ياسر علي

صحيحٌ أنني وُلدت في لبنان، في مخيم تل الزعتر، وعشتُ في مخيمات اللجوء تحت أسقفِ الصَّفيح والأزقة الضيقة.. غير أن بلدتنا في فلسطين لم تغب يوماً عن ليالينا وأيامنا.. فنحن في الشتات، نعرف بعضنا، ونصنّف بعضنا حسب القرية، ونجلس في مجالسنا نتبادل الأحاديث في تغريبتنا، ونحكي الحكايا عن شَعَبْ والدامون والبروة والبعنة ومجد الكروم.

من حسن ألطاف الله بي، أنني ولدت في عائلة بقيت تتحدث عن شَعَب كأنها ستعود غداً لتستكمل الحصاد، فقد تركوا الموسم قبل اكتماله.. وظلّ أهلي إلى آخر أيام حياتهم يتحدثون طوال العام عن مواسم الفلاحة والبذار والزرع والحصاد، عن كل فعل في وقته.. كأن تقول أمي مثلاً: حان في هذه الأيام حصاد السمسم أو القمح.. وفي وقت آخر تقول: في هذه الأيام موسم "النْطَارة"، وعندما كنت أذكر لها اسم من أتعرف إليهم من أهل البلد، تقول: هذا كنت "أَنْطُرْ" أنا وأمه أشجار التين في "يعنين".

ظل أهلي يحلمون بشعَب دائماً، وكثيراً ما استيقظ أحد والديّ صباحاً ليحكي منامه.. يقول أبي: الليلة كنا نحرس بقلعة الشيخ أو عند التركيب.. أو تقول أمي: الليلة كنا نتقاتل على الحنانة مع البنات.. وهكذا.. وعرفت منهما خريطة البلد، من غير أن أدرسها.. وصرت أعرف أن "يعنين" قبل الوصول إلى البلد، وأنها مصيف وفيها بُرَك وآثار قديمة، وأن عين الماء وشجرة "العبهرة" في مدخل البلد، والمدرسة أيضاً في منزل أهل الشاعر يوسف حسون.. وأن الداخل إلى البلد سيعرف أن حدودها التي على يمينه: ضهر العين وكرم المقرة والتركيب وراس سيد حسن الحسين.. وأن حدودها التي على شماله: سهل البلد والحنانة والبيادر والجبانة، ويحدّهم وادي الحلزون.

في سهراتنا، كنا نتذكر الماضي، ونتذاكر المستقبل.. نتحدث عن البلد، عن طريقة العودة، عن ليلة طويلة نهدم فيها المخيمات، ونُعدّ فيها ما خفّ حمله وغلا ثمنه. عن تَركِنا أشغالَنا وأملاكَنا وأموالَنا في الشتات من أجل العودة بأسرع ما يمكن. عن بلاد سنعيدها لنعمّرها، عن مشاريع تنمية. عن يوميات لم نعِشْها بَعد. عن حياة نرسمها كل يوم في مخيلتنا الشاردة في المنافي. عن أعراس العودة التي ستتناوب عليها القرى والمدن. عن حياتنا التي ستتغير، عن شكل نشاطنا الجديد بعدما عُدنا.. عن أبنائنا الذين سيكبرون ألف عام حين يلتحمون بتراب فلسطين. عن كبارنا الذين سيعودون لطفولتهم حين يشمون رائحتها على هذه الأرض. أشهد أننا سنعايش ملحمة يكتبها التاريخ؛ «ملحمة العودة».

قبل مواقع التواصل الاجتماعي الافتراضية، حاولت التواصل مع أهلنا بشتى الوسائل، منها عرس صديقي (السحماتي) على الحدود في تموز من عام 2000، وكنت أنتظر وصول أهلنا، فلم أجدهم. ومنها المشاركة في برامج فلسطينية على الفضائيات. ومنها مسيرة العودة قبل عدة أعوام، ولم يحصل التواصل. بل لقد سبقني كتابي (شَعَبْ وحاِميَتُها) إلى تراب شعب، حيث تم طبعُه وتوزيعه هناك. وبقيت شَعَب حلماً أحمله وأوصي به، كما أوصاني أبواي قبيل وفاتهم: إما أن تجلبوا تراباً من هناك إلى قبرينا، وإما أن تحملوا رفاتنا يوم العودة معكم لنُدفنَ هناك!

يا شعب الحبيبة.. سلامي وسلام الروح الشاردة والقلب الغريب، إلى كل أهلك الطيبين الصامدين الباقين بانتظارنا، بدون استثناء. ونعدكم أن «يوم العودة» آتٍ لا محالة، وعندما يأتي لن نتأخر لحظة واحدة عن العودة ولو مشياً على الأقدام.. فقد آن لنا أن ننهي التغريبة الفلسطينية، ونستعيد الحضور والحضارة المسروقة. العودة حتمية، وكلما غاب مرّ يوم وأشرقت شمس، تكون العودة أقرب.. وستسامحوننا إن سجدنا على أرض شعب وقبلنا ترابها قبل أن نقبّلكم أيها الغوالي..

المصدر: مدونات الجزيرة