زيارة خاطفة لمخيم نهر البارد: دمار وأسلاك شائكة وبواباتلا تمنع التمسك بالحياة والإبداع
نهر البارد/ جريدة البراق
منذ الأحداث الأخيرة في مخيم نهر البارد عام 2007، التي أدت لتدمير المخيم وتهجير سكانه، وعددهم أكثر من خمسة وثلاثين ألف نسمة، لم أزر المخيم. أنا الذي أعرفه، ولي فيه قرابة وعلاقات.
لم أزر المخيم حزناً عليه، وعلى من فيه..
لم أزر المخيم لعدم قدرتي على تحمل ما أصابه..
لم أزر المخيم لتبقى صورته الجميلة في ذهني، حيث المنازل "تعشق" المنازل، والأهالي يصمدون ويعملون، ويسطرون نموذجاً في الإبداع والإنجاز الاقتصادي، والحركة التجارية التي ازدهرت في المخيم، ونهضت بالمنطقة.
لم أزر المخيم لأنني كنت – ولا أزال – من الذين ناصروه، خاصة أيام الأحداث والمعارك. وبصراحة، لا أحتمل ما حصل للمخيم من تخريب وتدمير، أدى إلى نكبة لا يستحقها المخيم.
فهو لم يكن شريكاً في المعركة، ولا نصيراً لفتح الإسلام، ولا مؤسساً لإمارة إسلامية في الشمال.
قناعتي التي كانت وتبقى، أن مخيم نهر البارد ضحية "المصالحة" التي حصلت بين جهات محلية وإقليمية ودولية، بعد مخطط اغتيال الحريري، وعدوان تموز/ يوليو 2006، التي كان على إثرها لا بد من "تصفية" "فتح الإسلام"، التي أدخلت للمخيم لتنفيذ مخطط معين. ولما حصلت المصالحة، ما عاد هناك مبرر لوجودها، فوجب اغتيالها في مخبئها الذي لجأت إليه، وهو مخيم نهر البارد.
على مدخل المخيم
حاجز الجيش اللبناني، في الجهة الشرقية للمخيم، على أوتستراد المنية، تعامل معنا – للأمانة – بلطف، طلب أوراق السيارة والهويات، وطلب الجندي ذلك بابتسام، وهو لاحظ أننا "نعبر" لأول مرة، ولم يلجأ لتفتيش السيارة.
تصرفات الجندي اللبناني "اللطيفة" بهذا الشكل، لطالما تمنيناها، وطالبنا بإبعاد العسكر عن الحياة المدنية.
أصل بسرعة إلى منزل أختي الحاجة أم رجا، لأزورها وأقبل رأسها، ثم أزور بعض الأقارب، ثم أنتقل للجولة.
هذه الطرقات طالما مشيت عليها، المنطقة تغيرت، والدمار واسع وكبير.
المخيم اجتث عن بكرة أبيه، ومن يعرف المخيم يلاحظ أن التدمير طال المساحة الحقيقية للمخيم، المعروفة بـ"المخيم القديم"، وكأن رسامًا رسمها، أو مهندسًا هندسها.
مدخيل المخيم لجهة الجنوب مدمر بالكامل، تغيرت معالم المنطقة بالكامل، المخيم – من هنا – جرف عن بكرة أبيه.
من هنا كنت أدخل المخيم، على الطريق القديم بعد النهر، كانت المنطقة تمتلئ بالمحلات والمعارض.. اليوم صارت "صحراء" تصفر فيها الريح.
الطرقات محفرة، تمتلئ ببرك المياه، وهي بهذه "مقتل" للسيارات.
الدمار مخيف، لا مبرر له، وهو ليس نتاج عملية حربية، ولا معركة أو مواجهة بين طرفين.
الدمار هو نتاج عملية تدمير ممنهجة.. ونقطة على السطر، لتحقيق أهداف واضحة.
سياج وبوابة
ما يستفزك في كل هذا الواقع المخيف، هو السياج الشائك الذي يحيط بالمخيم من كل جانب، الدخول ممنوع إلى بعض الأماكن، تقف على مشارف هذا السياج وتنظر إلى منطقة كانت مخيماً.
منازل ومبانٍ وأسواق ومحلات غابت بالكامل، ومعها تاريخ من الحياة الإنسانية.
ذاكرة 65 عاماً مُحيت بالكامل، جدران بناها اللاجئ الفلسطيني دمّرت، أبواب كانت تفتح على الحياة أزيلت، أحياء كانت مرتع للرجال، وحيوية الشباب، وحركة الصبايا اختفت.
مخيم أزيل من الذاكرة، ولم يعد هناك إلا الإنسان، وهذا الإنسان صار شهيداً أو مهجراً أو مشرداً.
تاريخ من النضال السياسي شطب في شوارع هذا المخيم التي زينت باليافطات والأعلام، والتي احتضنت المسيرات والاعتصامات، وكانت شاهداً على التمسك بفلسطين وحق العودة.
إعادة الإعمار
عملية إعادة الإعمار التي تجري في المخيم مهزلة، هي تشبه كل شيء ما عدا إعادة الإعمار!
ثلاث رزم من أصل ثمانية، يجري العمل بها، الرزم الخمسة الأخرى لم يحن أوانها بعد.
المباني أشبه بعلب الكرتون، شكل المباني وحجمها ومساحتها ينفع للصين أو لهونغ كونغ.
شكل ومضمون المباني مستمد من أنظمة المجتمعات السكانية العشوائية، التي تشاد في مناطق العالم للفقراء وساكني الضواحي.
هي مجمّعات سكنية خالية من الحياة مفتقدة للروح. بين الأبنية مساحات تركت خالية، قيل إنها مربعات للراحة والحركة والتنفس، لكن ما يلاحظ أنها أقيمت بطريقة عشوائية وهدفها تخفيض مساحة المنازل، ولأسباب عسكرية.
الحياة
الفلسطيني مثابر بطبعه، حيث يكون يصنع الحياة، يجترح البناء من العدم، يحفر في الصخر، قادر على الإنتاج. الحياة تعود إلى الأحياء المسكونة، محلات، دكاكين، ورش، مدارس، سنترالات، مؤسسات اجتماعية، سيارات إسعاف ومساجد.
الفاعليات السياسية والاجتماعية في المخيم نشطة في متابعة شؤون المخيم وملاحقة عملية الإعمار.
الإنسان الفلسطيني في المخيم متمسك بالحياة، وهو يعتبر المخيم محطة للعبور نحو فلسطين.